۲٠۲٣/٠٤/۲۵ ۱٣:۵٤:٤۲
العفة والحياء في القرآن الكريم


العفة والحياء في القرآن الكريم

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

 ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾3

 قوى النفس وأهميّة تهذيبها

 كلُّ إنسان إذا رجع إلى نفسه ووجدانه وتأمّل سيجد أنّ فيه عدّة قوى: قوّة الغضب، وقوّة الشهوة، وقوّة الوهم، وقوّة العقل.

 هذه القوى في الواقع هي الّتي من شأنها التحكُّم بقرارات الإنسان وبالتالي بمصيره في الدنيا والآخرة، وهي متصارعة فيما بينها، أيّها يكون الآمر المطاع والمسيطر، لأنّ كلّ قوّة تريد إثبات مقتضاها دون أن تأبه بما يقتضيه غيرها ولذا يقع التصادم في مقتضياتها.

 والإنسان مأمور أن يُحكِّم القوّة العاقلة لتكون هي السلطان، وهي الآمر والناهي، وتخضع لها القوى الأخرى، فتُقدم عندما تأمرها القوّة العاقلة، وتنزجر عندما تزجرها، فتكون القوى الأخرى بمثابة الجنود المطيعة لسلطة واحدة هي سلطة العقل.

 وحيث إنّ هذه القوى قد تجمح إلى الإفراط، وقد تميل إلى التفريط، وقد تعتدل، فلا بُدّ من بذل الجهد لردّها إلى الاعتدال، وهو أمر في غاية الصعوبة ويستلزم جهداً عظيماً في طريق تحقيقه والوصول إليه، إلا أنّه في غاية القداسة أيضاً بل هو غاية بعثات جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو هدف الأوصياء عليهم السلام ومبتغى الحكماء، بل هو غاية الخلقة.

 وقد صرّح خاتم الأنبياء المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بقوله: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"4.

 

معنى العفّة

 من القوى الأساس المكوّنة للنفس الإنسانية والتي أُمر الإنسان بتهذيبها وردّها إلى الاعتدال:

 القوّة الشهويّة ويُطلق عليها القوّة البهيميّة لأنّ مقتضاها يشترك فيه الإنسان مع الحيوانات من التلذُّذ بشهوتي البطن والفرج.

 ولا تعني هذه التسمية أنّ هذه القوّة سلبيّة، أو لا فائدة من وجودها، بل إنّ الله تعالى قد خلقها لمنفعة نوعيّة مهمّة للإنسان، ولكن عندما لا تُهذّب تأخذ ذلك الطابع السيّئ وتتحوّل إلى إحدى المهلكات للإنسان.

 ففائدة القوّة الشهويّة الإبقاء على البدن والنسل، فالبدن هو آلة النفس في هذه النشأة المادّيّة فتُحفَظ الروح بحفظه، والقوّة الشهويّة تدفع الإنسان نحو الغذاء والنكاح من خلال شهوتي البطن والفرج ليدوم البدن والنسل، وكذلك الشهوات الأخرى لها منافعها بشرط اعتدالها وتهذيبها.

 فتحصيل فائدة القوّة الشهويّة لدى الإنسان بنظر الشرع والعقل مشروط بتهذيبها، فلا بُدّ من بذل الوسع لردّها إلى الاعتدال كي تتحقّق غايتها فتزكو النفس ويحيا صاحبها الحياة الإنسانية الّتي هي غاية الخلق.

 فإذا هُذِّبت "القوّة الشهويّة" واعتدلت وصارت تأتمر بأوامر العقل والشرع تُصبح عفيفة، وانتُزع منها معنى في غاية الحسن والفضيلة نُطلق عليه عنوان العفّة.

 فالعفّة إذاً هي صفة تلحق نفس الإنسان بعد تهذيبه للقوّة الشهويّة وردّها إلى الاعتدال من غير إفراط فيها ولا تفريط أي من غير شَرَه ولا خمود.

القوّة الشهويّة خطرة وتهذيبها من الجهاد الأكبر

 وبما أنّ من أعظم الشهوات شهوتي البطن والفرج فإنّ خطر هاتين الشهوتين عظيم إلى درجةٍ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُصرِّح بالخوف منهما على أمّته:

 قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث أخافُهنّ على أمّتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلّات الفتن، وشهوة البطن والفرج"5.

 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر ما يلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج"6.

 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من وقي شرّ لقلقه (لسانه) وذبذبه (فرجه) وقبقبه (بطنه) فقد وجبت له الجنّة"7.

 وأيضاً بما أنّ مقتضاهما قويّ جدّاً فإنّ تهذيبهما وردّهما إلى الاعتدال شاقٌّ جدّاً ويستلزم جهاداً مريراً مع النفس، وهو العفّة، ولكن أفضل الأعمال أحمزها وأشقّها، فمن قام بهذه المهمّة ووصل إلى فضيلة العفّة يكون في درجة عالية عند الله من حيث المقام والقرب، ومن حيث الثواب والأجر، فلذلك ورد في الروايات أنّه ما عُبد الله تعالى بأفضل من عفّة بطن وفرج.

يقول الإمام الباقر عليه السلام:"ما من عبادة أفضل من عفّة بطن وفرج"8.

 وعن أمير المؤمنين عليه السلام:"ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"9.

 وعنه عليه السلام: "أفضل العبادة العفاف"10.

 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عشق وكتم وعفّ وصبر، غفر الله له وأدخله الجنّة".

 وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال لرجلٍ عندما قال له: إنّي ضعيف العمل قليل الصيام، ولكنّي أرجو أن لا آكل إلا حلالاً: "أيُّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج؟"11.

 وفي نقل المحاسن قال الرجل:إنّي قليل الصلاة قليل الصوم ولكن أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً، ولا أنكح إلّا حلالاً، فقال: "وأيُّ جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج؟!"12.

 يتبيّن من هذه الروايات الشريفة أمران: 

1- أنّ التعفُّف والارتداع عن الشهوات المذمومة من موجبات الأجر والدرجات الرفيعة عند الله تعالى. 

2- كم هو صعب وشاقّ هذا الأمر حتّى يوضع في مصافّ الشهادة !

 ولماذا ليس الشهيد أعظم أجراً من الّذي قدر فعفّ؟

 إنّ الشهيد يُقدِّم نفسه في سبيل الله تعالى، والمتعفِّف يدوس على نفسه ويقتل فيها دوافعها غير المشروعة مرّات ومرّات ما دام له شعور في هذه الحياة، فإذا كان الشهيد يُقتل مرّة فالعفيف يقتل دوافع نفسه السيّئة مراراً!

 

والاعتدال يتمثّل بالأخذ بالأواسط من الأمور، وهو ما يأمر به العقل السليم ويُرشد إليه الشرع المبين، وكلّ سير باتّجاه أحد الطرفين مذموم، والوصول إلى أحدهما هو الوقوع في الرذيلة.

 ......................................................................

 3- سورة القصص، الآية: 23.

4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 16، ص 210.

 5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79.

6- م.ن.

7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج63، ص315.

8- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 80.

9-شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 233.

10- لكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79.

11- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، باب العفّة، ص 79.

12- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 68، ص 273.