۲٠۲٣/٠۵/٣٠ ۲۱:۱٤:۵۷
الإمام الرضا (عليه السلام) وولاية العهد


عندما استشهد موسى بن جعفر عليه السلام مسموماً بعد سنين من الحبس في سجون هارون، سيطر جوٌّ عام من القمع على البلاد الخاضعة للسلطة العبّاسية. وفي ذلك الجوّ الخانق الّذي وصفه أحد أتباع علي بن موسى عليه السلام قال محمد بن سنان: "وسيف هارون يُقطِّر الدّم"1، كان أكبر فنّ لإمامنا المعصوم الجليل هو أنّه استطاع أن يحافظ على شجرة التشيّع وسط أعاصير الحوادث، ويمنع من تشتّت وفتور عزم أتباع أبيه الجليل. وبأسلوب التقيّة المدهش استطاع أن يحفظ حياته الّتي هي محور وروح الشّيعة، ليستمرّ في جهاد الإمامة العميق في عهد أكثر خلفاء بني العبّاس قدرةً، وفي زمن الاستقرار والثبات الكامل لذلك النّظام. لم يتمكّن التاريخ من رسم صورةٍ واضحة عن مرحلة السنوات العشر لحياة الإمام الثامن في زمن هارون، وفيما بعده في مرحلة الحروب الداخليّة الّتي امتدّت لخمس سنوات بين خراسان وبغداد، لكن بالتدبّر يمكن إدراك أنّ الإمام الثامن في هذه المرحلة أكمل تلك المواجهة الممتدّة لأهل البيت عليهم السلام والّتي استمرّت في كلّ العصور بعد عاشوراء بنفس تلك التوجّهات والأهداف.

وبمجرّد أن حسم المأمون تلك الحرب لمصلحته عام 198 وتحوّل إلى الخليفة بلا منازع، كان من أوّل تدابيره التفرّغ لحلّ مشكلة العلويين وجهاد التشيّع. ولأجل هذا الهدف، وضع أمام عينيه تجربة من سلفه من الخلفاء.

تجربةٌ أظهرت القدرة والشموليّة والعمق المتزايد لهذه النهضة وعجز أجهزة السلطة عن اقتلاعها أو إيقافها ومحاصرتها. لقد كان يرى أنّ سطوة وهيبة هارون حتّى مع السّجن الطويل وتسميم الإمام السابع في السّجن لم تتمكّن من منع الانتفاضات والمواجهات السياسيّة والعسكرية والإعلاميّة والفكريّة للشيعة. ولأنّه لم يكن بمستوى القدرة الّتي كانت لأبيه ومن سلفه، بالإضافة إلى تأثير الحروب الداخليّة بين العبّاسيين، فقد كان يرى بأن السلطة العباسية مهدّدة بمشكلات كبيرة، ولهذا وجد من الضروريّ أن ينظر بجدّية تامّة إلى خطر نهضة العلويين.

لعلّ المأمون في تقييمه لخطر الشيعة على جهازه، كان يفكّر بطريقة واقعيّة. وأغلب الظّن أنّ مدّة الخمسة عشرة سنة بعد شهادة الإمام السابع وإلى اليوم الّذي سنحت فيه بالخصوص فرصة السنوات الخمس للحروب الداخليّة، فإنّ تيّار التشيّع تمتّع بالمزيد من الاستعداد على طريق رفع راية الحكومة العلويّة.

وقد كان المأمون يشعر بهذا الخطر بحدسه الذكيّ ويفكّر بمواجهته، ولهذا بتبع هذا التقييم والتشخيص كانت قصّة دعوة الإمام الثامن من المدينة إلى خراسان واقتراح ولاية العهد الإلزاميّة عليه، وهذه الحادثة الّتي جرت لم يحدث ما يشبهها، ولم يكن لها في نوعيتها لا شبيه ولا نظير في جميع عهود الإمامة الطويلة.

وهنا من الجدير أن نطالع واقعة ولاية العهد هذه. ففيها واجه الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام تجربةً تاريخيّةً عظيمةً في معرض حربٍ سياسيّةٍ خفيّة تحدّد نتيجتها انتصار أو هزيمة مصير التشيّع. ففي هذه المعركة، نزل الخصم وهو المأمون إلى الميدان بعدّته وعديده. وقد نزل المأمون إلى الميدانٍ متمتّعاً بالدهاء الواسع والتدبير القويّ والفهم والدراية غير المسبوقة، بحيث لو انتصر واستطاع أن يطبّق خطّته الّتي أعدّها لوصل يقيناً إلى الهدف الّذي لم يتمكّن أيّ واحدٍ من الخلفاء الأمويين أو العبّاسيين من تحقيقه منذ السنة الأربعين للهجرة (أي بعد شهادة عليّ بن أبي طالب)، ورغم كلّ جهودهم، وهو عبارة عن اقتلاع شجرة التشيّع وتيّار المعارضة الّذي كان دوماً كشوكةٍ في أعين زعماء الخلافات الطاغوتية.

لكنّ الإمام الثامن عليه السلام، وبالتدبير الإلهيّ، تغلّب على المأمون وهزمه في ذلك الميدان السياسيّ الّذي أوجده بنفسه. فلم تكن النتيجة أنّ التشيّع لم يضعف فحسب، بل كانت سنة الـ 201 هجري هي سنة ولاية العهد للإمام عليه السلام، من أكثر سنوات تاريخ التشيّع بركةً وثمرةً، وقد بثّت نفساً جديداً في جهاد العلويين. كلّ ذلك ببركة التدبير الإلهي للإمام الثامن عليه السلام وأسلوبه الحكيم الّذي أظهره هذا الإمام المعصوم في هذا الامتحان الكبير.

ولأجل أن نضيء على وجه هذه الحادثة المدهشة نقوم بعرض شرحٍ مختصر لخطّة المأمون وتدبير الإمام في هذه الواقعة.

لقد كان المأمون بدعوته للإمام الثامن عليه السلام إلى خراسان يسعى وراء عدّة مقاصد أساسيّة:
أوّلها؛ وأهمّها تبديل ساحة المواجهات الثوريّة الحادّة للشيعة إلى ساحةٍ للنشاط السياسيّ الهادئ البعيد عن الخطر. وكما ذكرت فإنّ الشيعة كانوا يمارسون في ظلّ التقيّة مواجهات ونضال لا يعرف التّعب والتوقّف. وهذه المواجهات النضالية، الّتي كانت متلازمة مع خاصّيتين، كان لها تأثيرٌ لا يوصف في القضاء على بساط الخلافة، وأحدهما المظلوميّة والأخرى القداسة.

وكان الشيعة وبالاعتماد على هذين العاملين النافذين يوصلون الفكر الشيعيّ الّذي هو عبارة عن تفسير الإسلام وتبيينه بحسب رؤية أئمّة أهل البيت إلى زوايا قلوب وأذهان مخاطبيهم، وكانوا يجعلون أيّ شخصٍ يمتلك أقل استعداد يميل إلى هذا النوع من الفكر أو مؤمناً به، وهكذا كانت دائرة التشيّع تتّسع يوماً بعد يوم في العالم الإسلامي. وكانت تلك المظلوميّة والقداسة الّتي تنطلق من ركيزة الفكر الشيعي تنظّم هنا وهناك وفي جميع العصور تلك النهضات المسلّحة والحركات الثورية ضدّ أجهزة الخلافة.

كان المأمون يريد أن يسلب هذا الجمع المناضل ذاك الخفاء والاستتار دفعةً واحدة، ويجرّ الإمام عليه السلام من ميدان المواجهة الثوريّة إلى ميدان السياسة، ويوصل بهذه الطريقة فعاليّة نهضة التشيّع الّتي كانت تتزايد يوماً بعد يوم، على أثر ذلك الاستتار والاختفاء إلى درجة الصفر. وبهذه الطريقة كان المأمون يسلب جماعة العلويين هاتين الخاصيّتين المؤثّرتين والنافذتين. لأنّ الجماعة الّتي يكون قائدها شخصية مميّزة في جهاز الخلافة ووليّ عهد الملك المطلق العنان في زمانه، والمتصرّف في أمور البلاد ليس مظلوماً وليس مقدّساً كما يُدّعى. وكان لهذا التدبير القدرة أن يجعل الفكر الشيعي مرادفاً لسائر العقائد والأفكار الّتي لها أتباعٌ في المجتمع ويخرجه من حيثية الفكر المخالف لجهاز السلطة، الّذي وإن كان بنظر الأجهزة ممنوعاً ومبغوضاً، لكنّه كان بنظر الناس، وخصوصاً الضعفاء، يمتلك جاذبية كبيرة ويثير التساؤلات.

والثاني؛ تخطئة ادّعاء التشيّع كون خلافة الأمويين والعبّاسيين غاصبة، وإضفاء الشرعيّة على هذه الخلافات. وكان المأمون بهذا العمل يثبت لجميع الشيعة بالتزوير، أنّ ادّعاء غصب الخلافة المتسلّطة وعدم شرعيّتها الّذي كان يُعدّ دوماً من الأصول الاعتقاديّة للشيعة هو كلامٌ بلا أصل وناشئ من الضعف وعقدة الحقارة، لأنّه لو كانت الحكومات السابقة فاقدة للشرعيّة وظالمة فينبغي أن تكون خلافة المأمون وحكومته الّتي هي وريثة تلك الحكومات غير شرعيّة وغاصبة، ولأنّ علي بن موسى الرضا عليه السلام بدخوله في هذا الجهاز وقبوله لولاية عهد المأمون قد اعتبره قانونيّاّ ومشروعاً، فيجب أن يكون باقي الخلفاء شرعيين وهذا بذاته نقدٌ لجميع ادّعاءات الشيعة. وبهذا الفعل لم يكن المأمون ينتزع من عليّ بن موسى الرضا عليه السلام شرعية حكومته ومن سلفه فحسب، بل كان يدمّر أحد أركان الاعتقاد الشيعي المبنيّ على ظلم الحكومات السابقة من أساسها.

إضافة إلى نقض الفكرة السائدة والمعروفة عن زهد وعدم اهتمام الأئمّة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر بأن الأئمّة يلجأون إلى الزهد فقط في الظروف الّتي لا تصل فيها أيديهم إلى الدنيا، أي عندما يمنعون عنها. بينما عندما تفتح أمامهم أبواب جنة الدنيا يسرعون نحوها. وحالهم في هذا حال الآخرين. فهم يتنعّمون بالدنيا إن أقبلت عليهم.

والهدف الثالث للمأمون؛ هو أن يجعل الإمام المعصوم، الّذي كان دوماً ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم، وكذلك بقية القادة العلويين ومن معهم ممّن اجتمع حول الإمام عليه السلام من أهل الصلاح، يدخلون تحت سيطرة المأمون. وهذا نجاح لم يتمكّن أحد على الإطلاق أن يحقّقه لا من العبّاسيين ولا من الأمويين.

والهدف الرابع؛ هو أن يجعل الإمام عليه السلام، الّذي يمتلك العنصر الشعبي، ويُعدّ قبلة الآمال ومرجع الناس في كلّ أسئلتها وشكاواها، تحت محاصرة أجهزة الحكومة. وبذلك يفقد شيئاً فشيئاً الطابع الشعبي ويبني حاجزاً بينه وبين الناس حتّى يضعف بالتالي الرابط العاطفي بينه وبين الطبقة الشعبية.

الهدف الخامس للمأمون؛ كان أن يكسب سمعة معنويّة ووجاهة. فمن الطبيعي عندها أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الّذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وصاحب الشخصية المقدّسة والمعنويّة، وفي المقابل يحرم إخوته وأبنائه من هذا المنصب. والمعروف دائماً أنّ التقرّب من الصالحين والمتديّنين من قبل طلّاب الدنيا يُذهب ماء وجه الصالحين ويزيد من ماء وجه أهل الدنيا.

الهدف السادس؛ كان باعتقاد المأمون أنّ الإمام عليه السلام بتسلّمه لولاية العهد سيتحوّل إلى عاملاً تبريريّاً لجهاز الحكم. فمن البديهي أنّ شخصاً كالإمام بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير له، وهو في أعين الجميع من أبناء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قام بشرح وتبرير ما يقوم به جهاز الحكومة، سوف يأمن النظام من أيّ صوت مخالف ولن يطعن به أحد. وبذلك أيضاً لا يستطيع أحد أن ينكر شرعية تصرّفات هذا النظام. فهذا الأمر كان عند المأمون قلعةً منيعةً يمكنه من خلالها أن يخفي عن الأعين أخطاء الخلافة وقبائحها.

بالإضافة إلى هذه كان للمأمون أهدافٌ أخرى بحسب تصوّره.

وكما يُشاهد فإنّ هذا التدبير كان من العمق والتعقيد لدرجة أنّه لم يكن لأحدٍ غير المأمون القدرة على القيام به، ولهذا السبب، كان أنصار المأمون والمقرّبون غافلين عن أبعاده وجوانبه. ويُستنتج من بعض الوثائق التاريخيّة، أنّ الفضل بن سهل، الوزير والقائد الأعلى، وأكثر الأفراد قرباً من جهاز الخلافة، كان غير مطّلعٍ على حقيقة هذه السياسة ومحتواها. وذلك حتّى لا تتعرّض أهدافه في هذه الحركة الإلتفافية إلى أيّة نكسة.

ولأجل ذلك كان المأمون يخترع القصص من أجل توجيه هذا الفعل ودوافعه ويتوسّل بهذا القول وذاك. حقاً يجب القول أنّ سياسة المأمون كانت تتمتّع بتجربة وعمق لا نظير له، لكن الطرف الآخر الّذي كان في ساحة الصراع مع المأمون هو الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام . وهو نفسه الّذي كان يحوّل أعمال وخطط المأمون المتصّفة بالدهاء والمكر والممزوجة بالشيطنة والمعدّة بدقّة وشمولية إلى أعمال لا فائدة لها ولا تأثير وإلى حركات صبيانية. بينما المأمون الّذي بذل هذه الجهود وأنفق من رأسماله الكبير في هذا السبيل، لا أنّه فقط لم يحقّق أي شيء من الأهداف الّتي كان يسعى لها، بل إنّ سياسته الّتي اتّبعها انقلبت عليه. فالسّهم الّذي كان يريد أن يرمي به مقام ومكانة وطروحات الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، أصاب المأمون، بحيث أنّه وبعد مضيّ فترة قصيرة أصبح مضطرّاً إلى أن يعتبر كلّ تدابيره وإجراءاته الماضية هباءً منثوراً كأنّها شيئاً لم يكن. وفي نهاية المطاف عاد المأمون ليختار نفس الأسلوب الّذي سلكه أسلافه من قبله وهو قتل الإمام عليه السلام . فالمأمون الّذي سعى جاهداً لتكون صورته حسنة ومقدّسة وليتصّف بأنّه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في تلك المزبلة الّتي سقط فيها كلّ الخلفاء السابقين له. أي انجرّ إلى الفساد والفحشاء ووُسمت حياته بالظلم والكبر.

ويمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون خلال 15 عاماً بعد حادثة ولاية العهد تكشف ستار الخداع والتظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يحضر المغنّيات أيضاً إلى قصره، وكان لديه مغنٍّ خاص يُدعى إبراهيم بن مهدي، وقد عاش مرفّهاً مسرفاً حتّى أنّ ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدرّ.

* إنسان بعمر 250 سنة، الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله.


1- الكافي، ج 8، ص 257.