۲٠۲٤/٠٦/٠٤ ۱۵:۵۸:۲۷
منظومة المرجعية لدى الشيعة (مشروعيتها ـ فائدتها ـ حدود صلاحياتها) (القسم الثاني)


من هو المرجع الديني؟ وكيف ومتى نشأ الاجتهاد في الفقه الإمامي؟ وما خصوصية مرحلة الغيبة الكبرى في بروز دور المرجعية الدينية؟ أسئلةٌ ينبغي التعرف على إجاياتها العلمية لتقديم صورةٍ صحيحة عن مسألة المرجعية، صورةٍ تقي المجتمع من الانجرار خلف الشبهات التي تتناول هذه المنظومة المباركة.


منظومة المرجعية لدى الشيعة (مشروعيتها ـ فائدتها ـ حدود صلاحياتها)

(القسم الثاني)

من هو المرجع الديني؟ وكيف ومتى نشأ الاجتهاد في الفقه الإمامي؟ وما خصوصية مرحلة الغيبة الكبرى في بروز دور المرجعية الدينية؟ أسئلةٌ ينبغي التعرف على إجاياتها العلمية لتقديم صورةٍ صحيحة عن مسألة المرجعية، صورةٍ تقي المجتمع من الانجرار خلف الشبهات التي تتناول هذه المنظومة المباركة.

المرجع الديني:

هو الفقيه المجتهد المسئول عن بيان الحكم الشرعي الذي يحتاج المؤمنون معرفته في عباداتهم ومعاملاتهم وقد أكد الفقه الإمامي على هذه الحقيقة: "يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته ولو في المستحبات والمباحات أن يكون مقلدا أو محتاطا.... والتقليد هو العمل مستندا إلى فتوى فقيه معين... يجب أن يكون المرجع للتقليد عالما مجتهدا عادلا ورعا في دين الله، بل غير مكب على الدنيا، ولا حريصا عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا على الأحوط، وفي الحديث من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه"[i].

والكلام هنا أن مسألة الاجتهاد والتقليد والمرجعية هي من كبريات المسائل التي أثيرت وكان لها تأثير كبير في مسار الواقع الشيعي، وقد ذكرنا أن هذه المسألة يتفرد بها الشيعة عن غيرهم من المدارس الإسلامية[ii] الذين لم يولوا أهمية للقواعد التي تضبط عمل الفقيه وحدود صلاحياته والصفات التي يجب أن تتوفر فيه، كما أن الجانب المهم في مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي الانضباط بالفتوى على أسس متينة منها التقليد على أساس الأعلم، يقول الشيخ محمد مهدي الآصفي (المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية كيان فقهي كبير يحتل من حياتنا السياسية والدينية مساحة واسعة جداً يرتبط بها الجمهور بأوثق العلاقات وأمتنها، وتكتسب تعليمات المرجعية بالنسبة للفرد الشيعي صفة الأمر والحكم الشرعي الملزم دينياً والذي لا يجوز التخلف عنه ومخالفته وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني الذي يتصدى لشؤون التقليد فلا يتم اختيار المرجع من قبل النظام الحاكم وإنما يتم انتخاب المرجع بصورة تدريجية عبر الزمن والسبب في ذلك أن ارتباط (المقلّد) الفرد المسلم بالمرجع يتم بعد اكتمال الثقة الكافية في نفس الفرد تجاه المرجع في كفاءته الدينية والعلمية والإدارية وامتداد هذه الثقة في مساحة واسعة من المجتمع يحتاج إلى زمن غير قليل).

نشوء المرجعية والاجتهاد:

كان الناس في حياة الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) يأخذون أحكامهم الفقهية من الأئمة ( عليهم السلام ) نفسهم ، بشكل مباشر أوعن طريق أصحابهم ، وهم العلماء المجتهدون الذين يعيشون في الأمصار ، فيستفتيهم الناس فيجيبون بالنيابة عنهم، ولم يكن الأمر متوقفا على التنظير لمسألة المرجعية، بل طبق على بعض الأشخاص وأمروا الناس بالرجوع إليهم، كان من ذلك: زرارة بن أعين الذي أرجع الإمام الصادق(ع) المرجعية إليه، وأبان بن تغلب الذي أرجع المرجعية إليه الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام)، وأبو بصير الذي نص عليه الإمام الصادق(ع)، ومحمد بن مسلم الذي نص عليه الإمام الصادق(ع). عبد الملك بن جريح الذي نص عليه الإمام الصادق(ع)، كما بادر الإمام الكاظم ع إلى توسيع مؤسسة الوكالة، فعين أشخاصا في مختلف المناطق كوكلاء عنه وذلك من أجل تسهيل وصول الشيعة مع إمامهم، ويونس بن عبد الرحمن الذي أرجع الإمام الرضا المرجعية إليه، وزكريا بن آدم القمي الذي نص عليه الإمام الرضا(ع)، ومحمد بن عثمان العمري وأبوه اللذين أرجع المرجعية إليهما الإمامان الهادي والعسكري (عليهما السلام),  وبهذا النحو يعتبر تطبيق للمرجعية بشكل عملي وكذلك فالاجتهاد بمعناه المعروف اليوم كان موجودا منذ زمن المعصومين(ع)، ومن أدلة ذلك تدريب الأئمة(ع) أصحابهم على استنباط الأحكام، واهتمامهم(ع) بتعليمهم القواعد الكلية، وتصريحهم (ع) بعدم اعتبار شخص ما فقيها لمحض روايته عنهم، وأخيرا استفادة هؤلاء الأصحاب من القواعد العامة في مقام الإفتاء[iii].

أما بعد الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عليه السلام)، فقد بدأت مرحلة أخذ الأحكام عن طريق السفراء الأربعة وهم:

الأول: عثمان بن سعيد.

الثاني: محمد بن عثمان.

الثالث: الحسين بن روح.

الرابع: علي بن محمد السمري.

وقد انتهت سفارتهم بوفاة السفير الرابع في سنة (۳۲۹ هـ) .

الغيبة الكبرى

بدأت الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) سنة (۳۲۹ هـ)، والسؤال هنا: من الذي سيجيب الناس عن تساؤلاتهم في زمن الغيبة ؟

وجواب ذلك نجده في أحد التوقيعات التي وصلتنا عن الإمام الغائب ( عجل الله تعالى فرجه ) إذ يقول : "أمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رُوَاة حديثنا ، فإنهم حُجَّتي عليكم ، وأنا حُجَّة الله عليهم"[iv].

وفي توقيع آخر يقول: (عليه السلام): "من كان من الفُقَهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فَلِلعَوَام أن يقلدوه"

وعلى أساس ذلك برز فقهاء، وعرفوا بين الناس كمراجع يستفتونهم في مسائلهم الشرعية، نذكر هنا خمسة منهم كنموذج أقيمت عليه دعائم المرجعية عند الشيعة :

الأول: ابن قولويه ( قدس سره ) : وهو أحد دعائم الفكر الشيعي، توفى سنة ( 368هـ ) .

الثاني: الشيخ الصدوق (قدس سره): آلت إليه المرجعية بين سنة ( 368هـ ) وسنة ( ۳۸۱ هـ ) ، وقدَّم خلالها خدمات جليلة للتراث الشيعي .

الثالث: الشيخ المفيد (قدس سره): وسَطَعَ نجمُه في عالم التشيع بين سَنَتَي ( ۳۷۱ هـ ) و ( 413هـ )، وكان لا نظير له في عصره في التَبَحُّر بالإحكام .

الرابع: السيد المرتضى (قدس سره): أصبح مرجعاً للتقليد من سنة ( 413هـ ) إلى سنة ( 436هـ ) ، إذ فاق علماء عصره في العلوم الإسلامية، وكان يُلَقَّب بـ ( عَلَمِ الهُدَى) .

الخامس: الشيخ الطوسي (قدس سره): فقيه مجدِّد عرف بـ (شيخ الطائفة)، وسطع نجمه في سماء التشيُّع بين سنتي (432هـ )و (460هـ ) ، واستطاع بجهده المتواصل أن يحدث تحولاً في المباحث الفقهية والأصولية .

إن العمل بالاجتهاد لم يظهر بشكل حقيقي إلى حيز الوجود إلا بعد غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه لأن وجوده؛ أي الإمام المعصوم كان يغني عن الاجتهاد فالإجابة منه مغنية عن الحاجة للعمل بالاجتهاد وإن كان هناك اعتماد على بعض العلماء من أصحاب الأئمة في كثير من المفاصل والمسائل كما ذكرنا ذلك آنفا.



[i] - الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، ج1، ص5

[ii] - على الناحية الأخرى فإن تأسيس المذاهب الفقهية الأخرى بدأ بطلب من الحكام العباسيين ومن بينها المذهب المالكي والمذهب الحنفي حيث يروي ابن قتيبة في الإمامة والسياسة أن أبا جعفر المنصور عندما حضر إلى الحج عام 163 للهجرة اجتمع بمالك بن انس فقال له (يا أبا عبد الله ما زال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم وإني أخالك أمانا لهم من عذاب الله وسطوته ثم قال يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتبا وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس وشواذ ابن مسعود واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم لنحمل الناس على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ونعهد إليهم ألا يخالفوها ولا يقضوا بسواها فقلت أصلح الله الأمير إن أهل العراق (أي الشيعة) لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا فقال أبو جعفر يحملون عليه ونضرب على هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط فتعجل ذلك وضعها فسيأتيك ابني محمد المهدي العام المقبل ليسمعها منك فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله قال مالك ثم أمر لي بألف دينار عينا ذهبا وكسوة عظيمة وأمر لابني بألف دينار ثم انصرف مالك) ص 179.

[iii] - انظر: فرحان، عدنان، أدوار الاجتهاد عند الشيعة الإمامية، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1428هـ، ص 90-93.

[iv] - كمال الدين، ج۱،  باب 45، 484.