زينب علیهاالسلام القدوة في بصيرة معرفة العدو
زينب علیهاالسلام القدوة في بصيرة معرفة العدو
تعتبر واقعة كربلاء من أهم الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد رسول الله(ص)، فقد تجلى فيها تيار الردة والانقلاب على الأعقاب ووصل إلى قمته وذروته بقيادة المعسكر الأموي ، كما تجسد وتبلور خط الرسالة والقيم الإلهية في الموقف الحسيني العظيم، وكان للسيدة زينب عليها السلام دور أساسي في هذه الثورة العظيمة، حيث استطاعت بشجاعتها وبصيرتها (ع) إيقاظ الأمة من سباتها، وكشف حقيقة حكم بني أمية الجائر، فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد شخصية أخيها الإمام الحسين(ع) , ومن يقرأ أحداث كربلاء ويقلب صفحاتها يرى أن السيدة زينب(ع) قد قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد الإمام الحسين وأكملت حلقاتها، ولولا السيدة زينب (ع) لما حققت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ، لقد كشفت كربلاء عن جوهر شخصية السيدة زينب عليها السلام وعظيم كفاءاتها وملكاتها القيادية، حيث لا يمكن لأي كاتب للتاريخ الإنساني أن ينكر الدور السياسي العظيم الذي لعبته، فقد قرنت الجرأة بالوعي والحكمة والإجابات المختصرة في حجمها البعيدة المرمى في معناها، ونمّت عن بصيرة لامتناهية في معرفة عدوها، وعن فهم عميق للخط السياسي الذي ناصرته عن قناعة وعقل منفتح لاعن عصبيّة وتقليد أعمى.
زينب القدوة :
القدوة هي عبارة عن الشخص والمثال الأعلى الذي يقتدى به والنموذج المثالي في تصرفاته وأفعاله وسلوكه، بحيث يطابق قوله عمله ويصدّقه، وقد تجلت سمات القدوة في شخصية السيدة زينب عليها السلام، فكانت زينب القدوة ذات القلب الملكوتي الذي لم يرَ في الطّف إلا جميلاً، قادت المعسكر الحسيني بالانضباط النفسي، فكانت معركتها معركة المعنويات ، معركة القيم والمصير والوجود.
لقد عرفت السيدة زينب عليها السلام عدوها وسبرت أغواره وشكلت صورة واضحة لأمراضه النفسية والخُلقية؛ وهذه المعرفة الواضحة للعدو عرّفتها بأي نوع من الأسلحة عليها أن تقاومه، فأجادت توظيف الأحداث والآلام والحقائق ومفردات الكلام بمهارات فائقة لا يتوفق إلى أدائها إلا من كان يتمتع إلى جانب العلم بالبصيرة والإيمان الواعي والرؤية الصحيحة والتحليل العميق.
أسلوب السيدة زينب عليها السلام في مواجهة العدو:
لقد اهتمت السيدة زينب ع بتربية نفس العدو وتأديبها في أحلك الظروف رغم أنها كانت في حالة أسر وسبي مضن، بعد قتل أخيها الإمام الحسين ع وإخوتها وأهل بيتها وحرق خيامهم وممارسات الجيش المعادي لكافة أنواع التعذيب والقهر النفسي والجسدي لإذلالها لكنها صمدت وثبتت موظفةً ما تمتلكه من قوة إيمانية وتربية نبوية لتخاطب الظروف والأشخاص بأسلوب علاجي تنفع به الأجيال القادمة، وتضع دستوراً واضحاً عن كيفية التعامل مع الذين باعوا ضمائرهم بأبخس الأثمان، ومن أغرتهم مظاهر ترف الحياة الدنيا الزائلة ونسوا الآخرة وقبلوا بالباطل دون الحق وغيروا المفاهيم وساروا بركب الضلال طمعاً في ملذات الدنيا دون حساب لقوة الخالق ومنطق الحق والعدل، فتعاملت مع الحدث برويّة وعلم ومعرفة ودراية دون أن تكترث لمظاهر الظلم والجور وأنواع العنف، فقابلت الباطل بسلاح الوعي والحكمة والبصيرة والإيمان.
وقد تجلى ذلك في عدة مواقف للسيدة زينب عليها السلام مع عدوها، من هذه المواقف:
1. عند تسلم السيدة زينب مهام قيادة الأمة بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) نزلت إلى ساحة المعركة وجلست إلى جسد الحسين تخاطب الله عز وجل بصبر وإيمان لا يفوقه صبر بعد أن وضعت يديها الشريفتين تحت جسد الحسين فرفعت الجسد مخاطبة الله تعالى: "(إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)" ، ومخاطبة جدها رسول الله: "(يا جداه يا رسول الله صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء مقطع الأعضاء مسلوب العمامة والرداء وبناتك سبايا...)" وبينما هي في هذه الحال كان عمر بن سعد يحوم حولها وحول جسد الحسين يهمّ في حزّ رأس الحسين عليه السلام؛ ليقدمه لقادته كي ينال رضاهم بغضب الله، فالتفتت إليه السيدة زينب ع مخاطبة: "( ويحك ياعمر! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! )" .
إن معالجة النفس الأمارة عند السيدة زينب(ع) كانت وفق الحالة، فعمر بن سعد من الذين حضروا مجالس الإمام علي(ع) ورغم أنها على علم بقرار هذا المرتد في إقدامه على فعلته ولكنها علمت الأمة من خلال هذا الحديث كيفية التهذيب بالتأنيب لنفوس عاشت عمراً بمجالس الوعظ والإرشاد ولكنها لم تشبع من الملذات فأذلها الشيطان إلى تفضيل فتات الدنيا على نعم الآخرة.
2. الحديث مع عبيد الله بن زياد نوع آخر من أنواع علاج النفس الأمارة من حيث عبودية ابن زياد المطلقة لعبد لا يملك نفعاً ولا ضرا ً كيزيد بن معاوية، اتخذت السيدة زينب (ع) طريق التوعية والتأديب في مخاطبتها ونهرها واستخفافها بقدره رغم تسلطه واستهتاره وغطرسته، حين أجابت بن زياد على شماتته بهم قائلة:
"(الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، فما رأيت إلا جميلاً...هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده...فانظر لمن الفلج يومئذ...، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.)"
هذا التأديب والاستخفاف والإهانة التي وجهتها السيدة زينب(ع) لعبيد الله بن زياد هي بمثابة علاج نفسي لنفس مريضة أمارة بالسوء تشبع نقصها وماضيها الأسود، فابن زياد فريد بنسبه الذي ينظر إليه بالشك، وإذا سلمنا بصحة نسبه إلى زياد بن أبيه، فإن كلمة (أبيه) لوحدها تكفي لنسف أي مفاخرة نسبية بينه وبين أي عربي آخر، فما بالك بالهاشميين؟ فالعقد النفسية التي يحملها مكنته من التجرؤ على ابن بنت رسول الله، ويزيد أرسله بهذه المهمة لعدم حصوله على قائد جيش يواجه به حفيد النبي لسقوطه وانحداره.. فجلف كهذا منحدر من أصل كهذا يعول عليه بمهمات كهذه، والسيدة زينب(ع) لعلو قدرها وعظمة شرفها ونسبها وقفت صامدة أمام هذا المنحرف رغم عنجهيته وجهالته وبينت له وللعالم أجمع الأعراض التي سببت مرضه والأسباب التي مهدت الطريق لاستشراء هذا المرض وبالتالي المعالجة لمثل هذه النفسية وذلك بالترفع عن محادثته وعند ردها كان الرد بالإهانة والنهر والاستخفاف والتوعية وإزهاق حالة النصر المزيف بالوعيد بقضاء الله وعقابه المحتوم عاجلاً أم آجلاً.
3. الحديث مع يزيد كان نوعا أخراً من تربية النفوس التي أتعبها الحقد والبغض المتوارث والكراهية لبهاء محمد ونوره الذي أشرق على ظلام الجاهلية فأنارها بضياء الإسلام واعتمد على مبدأ الرحمة والخلق العظيم والحوار البنَّاء وتجنب السيطرة والهيمنة والإكراه، فتحول حال الأمة من حال القهر والعبودية والتسلط إلى حال الديمقراطية والتحرر من العبودية لغير الله وهذا هو قوام الحرية الحقيقية التي تنشدها الأمم. فمن أحقاد الجاهلية تربع يزيد بالسيف والقهر على منبر غايته الارتداد المتعمد عن دين سيدنا محمد والعودة إلى الجاهلية الأولى وفرض نظام التسلط والهيمنة والفجور والعبث بالقوة والإذلال النفسي للمجتمع الذي تأقلم مع حضارة الإسلام المنفتحة والمحبة لكل الناس والتي اعتمدت المبدأ الرباني بأن (لا إكراه في الدين)، فواجهت السيدة زينب غطرسة وعنجهية وتمرد وجهالة يزيد بحكمة النبي وشجاعة الوصي وحلم الزهراء متحدية بقول الحق ومواجهة بكلام الله الذي اعتمدته مبدأ أساسياً في المعالجات المختلفة لأصحاب النفوس المريضة حين سمعت يزيدا يردد شعرا يفتخر فيه بما فعل فوقفت السيدة زينب دون أن تطلب الإذن بالكلام فحمدت الله وصلت على الرسول وآله وقالت:
"(صدق الله سبحانه حيث يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُواْ السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهزِؤون}. أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى. أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلا)" ، وهنا افتتحت خطابها بكلام الله عز وجل بتذكير المُخاطَبْ ومكاشفته بما يحمل في أعماقه من تكذيب بآيات الله وعدم اعتراف بأقوال الله عز وجل واستهزاء بها حيث قال (لا خبر جاء ولا وحي نزل)، ثم وضعته بحقيقة قراراته التي ترفضها جملةً وتفصيلاً كحالة الأسر التي مروا بها (فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى) وإعلامه بأن ما تمكن من القيام به ليس تكريماً له من الله تعالى حتى يصبح في حالة من السرور ويمكنه من التربع على عرش جدها رسول الله، وذكرته بقول الله تعالى{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} . فهي تخاطب يزيد معلنةً أنّ هذه الدولة شيدها جدها رسول الله وبنيت على تضحيات آل بيته بالدرجة الأولى (وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا) فأهل البيت هم قادة هذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم.
ثم انتقلت إلى ناحية أخرى مذكرة بتفضيل أهل البيت لأن لأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات، الذي كان أبوه وجدّه وأهله هم طلقاء عفو النبي(ص) عند فتح مكة لذلك خاطبته «أمن العدل يا ابن الطلقاء». فلم يتمكن يزيد من الرد والتفوه بحرف واحد، ثم استمرت السيدة زينب بخطابها وتأنيب الطاغية يزيد وتذكيره بماضيه غير المشرف فأعماله ما هي إلا استمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين، وذكرته السيدة زينب بجدّته (هند) أم معاوية والتي قادت حملة لقتال رسول الله والمسلمين، وأغرت وحشي بقتل الحمزة عمّ رسول الله، ثمّ مثّلت بجسده وانتزعت كبده، وحاولت مضغها، إظهاراً لحقدها وبغضها لرسول الله (ص)، ولذلك لا تستغرب اعتداءات يزيد على أهل البيت(ع) لأنها جاءت امتدادا لمنهجية العداء للنبي الأعظم وللرسالة التي جاء بها فتقول(ع): "(وكيف يرتجى من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء)" ، وتوعدته بمصير أسلافه وأنّه لاحق بهم في نار جهنم حين قالت:
(أمن العدل يا ابن الطلقاء؟ تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟ وكيف يرتجى من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟ وتهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت) .
إن رهان السيدة زينب على النصر، وثقتها بالظّفر الحقيقي، لم يكن بحدود دنيا الفناء، بل تتطلّع نحو الآخرة، حيث هناك عدالة الله، وأن العاقبة للمتّقين، والخزي والعار ولظى النار مقر الظالمين. لقد تحدت يزيد في أنه لن يتمكّن من تحقيق هدفه بطمس منهج أهل البيت، مهما استخدم من قدرات: (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها) . فمنهج أهل البيت يمثّل الحقّ والعدل، ويجسّد الوحي الإلهي، وسوف يبقى الخلق متطلّعا لإحقاق الحق وتدمير الباطل.
عندما تتفحص كلمات السيدة زينب الموجهة إلى أعدائها ستجد في عباراتها وصفات العلاج الدوائي والجراحي لعدو مقهور لا حول له ولا قوة أمام قوة الله التي تلبست روح وجوارح زينب ع، فتربية النفوس المريضة كانت درساً رئيسياً في منهجية السيدة زينب(ع) البصيرة بالنفوس المريضة لأعدائها، ولولا دورها في كشف التشويه والزيف والتضليل ومتابعة الإمام زين العابدين عليه السلام وغيرها من الامتدادات الموالية للحسين عليه السلام في نصرة الثورة الحسينية بطريقة جهادية علميّة توعويّة هادفة ومستمرة لضاعت ثمرة الثورة، واندثرت دماء الشهداء، واختلت الموازين الرساليّة.
تحتاج المرأة اليوم إلى القدوة، وشخصية زينب عليها السلام غنية بجوانب القدوة للمرأة الرسالية، فإذا كانت قدوتها زينب عليها السلام, كان عملها عبارة عن الفهم الصحيح والفطنة في إدراك الموقف واختيار أفضل الأعمال والمواقف حتّى لو ترافق ذلك مع التضحية والتزام أيّ شيء من أجل أداء التكليف الكبير الذي أخذه الله تعالى على النّاس.
الکاتب: هنادي حيدر