۲٠۲۲/٠٦/۲۷ ۱٤:۱٠:٤۲
خطبة صلاة الجمعة24 ذي القعدة 1443 لحجة الإسلام والمسلمين سماحة الشيخ حميد صفار الهرندي


                                      بسم الله الرحمن الرحيم

 

خطبة الجمعة لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حميد الصفار الهرندي (زيد عزه) ممثل الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) في سورية، بتاريخ 24 ذي القعدة 1443ه.

الخطبة الأولى

 تحدّثنا في بحثنا عن أسلوب الحياة وفقاً للرؤية الإسلامية عن كيفية تعاملنا مع الآخرين كالأقرباء والوالدين والإخوة المؤمنين، والمسلمين من غير أتباع أهل البيت، وكيف نتعامل مع الفساق من أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ونكمل هذا البحث حول التعامل مع الفاسقين، ومن مصاديق الفسق هو النفاق؛ بأن يتظاهر أحدٌ بالدين وليس متديناً.

كان المنافقون يعيشون مع المسلمين في المدينة المنورة، وكان المسلمون يتعاملون معهم كمسلمين لأنهم شهدوا بالتوحيد وبرسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا يدفنون في مقابر المؤمنين، إذ لم تكن مقبرةٌ خاصةٌ للمنافقين.

المنافق يدّعي أنه مسلم، وبما أنه يدّعي ويشهد لا يمكن أن تنكره، ولكن يجب أن تنتبه؛ بما أنه يخالف ما يدّعي وله شياطين وإذا خلا بهم قال: نحن مستهزئون بهم ولسنا مؤمنين، فهؤلاء من أبرز مصاديق الفسق، فكيف نتعامل مع هؤلاء؟

في حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يخاطب صحابيّه الجليل كميل بن زياد وينصحه ببعض النصائح يقول: "يا كميل قل الحق على كل حال، ووادِّ المتقين، واهجر الفاسقين، وجانِب المنافقين" (تحف العقول، ص173)، أي لا تخالطهم، مع أنهم يدعون أنهم مسلمون.

وروى ابن أبي عمير عن إسحاق بن عمار قال: قال الإمام الصادق (عليه السلام):  "يا إسحاق، صانع المنافق بلسانك، وأخلص ودّك للمؤمن" (من لا يحضره الفقيه، ج4، ص404)، صانع المنافق من لسانك - مثلما ذكر بالنسبة لمجاملة الفجار والفساق-  بأن تكون بقلبك مبغضاً له ولكن في كلامك قد تضطر أن تجامله وتعامله، هذا شيء ظاهري وفي الحقيقة بما أنه فاسق منافق عليك ألا تتجاوز لسانَك هذه الكلمات التي فيها لون من الحب ولكن ليس فيها حبٌ خالصٌ، والحب الخالص لأخيك المؤمن.

وندخل في دراسة جديدة حول جماعة أخرى يجب أن نعرف كيف نتعامل معهم، إذ نحن لنا تعامل على كل حال مع بني البشر، وهؤلاء قد يكونون مؤمنين وقد تحدثنا عنهم، وقد يكونون غير مؤمنين، كأن يكونوا مشركين أو كافرين، والمشركون والكافرون قد يكونون معاندين مخاصمين ومحاربين لنا، وقد يكونون في سلم معنا، فتختلف المعاملة مع المشرك الذي يقاتلك عن المشرك الذي يعيش معك في سلم، أو المعاهِد لك. وتقرؤون في سورة التوبة حكم هؤلاء المعاهدين مع النبي (صلى الله عليه  وآله وسلم ) من المشركين.

فما دام هؤلاء يلتزمون بعهدهم فالتعامل معهم قائم، وإذا لم يلتزموا وخالفوا عهدهم فالله تعالى يأمر بالخصام  والعداء والمقاتلة وما شابه ذلك مع هؤلاء من المشركين أو من غير المشركين مثل أهل الكتاب الموحّدين، أعني اليهود والنصارى.

كيف نتعامل مع هؤلاء؟ نجد في التعاليم الإسلامية أحكاماً مختلفة، وقد تتصور أن هذه الأحكام متناقضة؛ إذ من جانب نجد روايات أو آيات تدلّنا أن على المسلم التعامل مع أهل الكتاب بشكل سليم فلا يعاديهم، ومن جانب آخر نجد بعض الروايات توجب علينا في التعامل معهم أن نأخذ بالحيطة والحذر، وروايات أخرى تقول لك لا تتخذهم ولياً ولا يكن صديقٌ من أصدقائك من أهل الكتاب، فكيف نجمع بين هذه الروايات؟

نقول بشكل ملخص: إنّ هذه الروايات ترتبط بظروف خاصة لها، والإسلام بشكل عام يأمرنا بأن تكون علاقتنا مع بني البشر- مسلمين كانوا أو غير مسلمين - علاقة سلم وصلح وفقاً للقيم الانسانية، وهذا هو المبدأ الأساس وهذا هو الأصل، ولكن إذا حدث شيء يمكن أن تتغير هذه العلاقة.

ونذكر أمثلة على المعاملة الإنسانية مع أهل الكتاب حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم: Pلَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَO (سورة الممتحنة، 8)      
هذه الآية مفهومها عام لأهل الكتاب والمشركين من غير أهل الكتاب، إذا كانوا يدارون المؤمنين ويستسلمون للمسلمين يجب أن تعيشوا معهم كإنسان، هذا هو المبدأ الإلهي العام بالنسبة لجميع الأجانب، المشركين وغير المشركين.

ونذكر أمثلة على المعاملة الإنسانية مع أهل الكتاب؛ أولها اجتناب قذف أهل الكتاب، فلا يحقّ لك أن تفتري عليه وتقول هذا سرق من أموال فلان مثلاً، وتقول هذا من أهل الكتاب فيمكن أن نقذفه.

فعن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال "لا ينبغي ولا يصلح للمسلم أن يقذف يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً، بما لم يطلع عليه منه" (مستدرك الوسائل، ج17، ص234)، فإذا كانت عندك بيّنة وتعرف يقيناً فهذا ليس قذفاً بل هو شهادة عليه، ولكن القذف يعني أن تتهمه بما لا تعرفه وتقول بما أنه يهودي أو مجوسي أو مسيحي فلا بأس ويجوز لي أن أتهمه.

وثانيها الإحسان إلى الجليس اليهودي، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لإسحاق بن عمار: "يا إسحاق...وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته" (من لا يحضره الفقيه، ج4، ص404) نعم هذا اليهودي إذا كان مغتصباً لأرضك فليس له حرمة، هذا الذي يأتي ويحتل أرضاً هذا ليس محترماً، وهذا الحديث ليس بشأنه، بل بشأن اليهودي الذي يعيش في حي من أحياء المسلمين ويريد أن يعيش عيشة عادية ولا يريد أن يظلم، نعم يجب أن يدفع شيئاً، كما يدفع أهل الذمة ما يسمى بالجزية، وبهذا الذي يدفعه يكون في أمان ويعيش وله كل ما للمسلم.

المسلم كمواطن في البلد الاسلامي له حقوق، ولهذا اليهودي وهذا المسيحي أيضا نفس ما يكون لكل المواطنين بما أنه دفع الجزية ولا يعادي ولا يقاتل، ولا يُظنَّ أنني أتحدث عن جماعة من اليهود الذين كلهم مقاتلون، هؤلاء اليهود الذين يعيشون في فلسطين المحتلة ليسوا مواطنين، هؤلاء مقاتلون ضد الأمة الإسلامية، وحكم المحارب الذي يقاتل المسلمين حكمٌ آخر، ولو لم يكن يهودياً وكان مسيحياً، فحكمه هذا لأنه احتل الأرض واغتصب كثيراً من الأشياء منها الأراضي، واغتصب حرية شعب مظلوم فهؤلاء أمرهم واضح.

 وأما بالنسبة لهؤلاء فهناك أمر ثالث أذكره كمثال لمعاملة المسلمين لليهود، على سبيل المثال لا الخصوصية، وهذا يمكن أن يعمم على كل أهل الكتاب الذين يريدون أن يعيشوا مع المسلمين وتحت راية الاسلام، "بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاد يهودياً في مرضه" (مستدرك الوسائل: ج2، ص77)، هكذا تصرفات من النبي أفضت إلى أن يسلم كثير من اليهود على يده صلى الله عليه وآله، وبعضهم استشهدوا بعد إسلامهم.

نعم يوجد  في اليهود أيضاً من يقبل الحق كما أن هؤلاء في الصدر الأول قبلوا الحق، وبالمقابل فإن كثيراً منهم ادعوا الإسلام وكانوا الحجر الأساس لجماعة المنافقين، فمن منافقي المدينة بعضٌ كانوا من اليهود.

ومثال آخر من المعاملة الانسانية لأهل الكتاب هو حرمة انتهاك حريمهم، فلا يحق للمسلم أن يدخل في بيوت أهل الكتاب بدون إذنهم، وثمة حديث نبوي عن طريق إخوتنا أهل السنة في كتاب الجامع الصغير يقول: "وإن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن" (الجامع الصغير، ج1، ص468).

والمثال الخامس هو اجتناب التصرف في أموال أهل الكتاب، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "ولا أكل ثمارهم ، إذا أعطوكم الذي عليهم" ماذا عليهم؟ الجزية، فإذا أعطوا هذا الحق لا يحق لكم أن تأخذوا من ثمارهم، وليس معنى الثمار هنا فقط الفواكه بل حصيلة تجارتهم، يعني مالهم، هكذا يعلمنا الإسلام أن نتعامل مع غيرنا من البشر.

الخطبة الثانية:

اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة هو يوم من أيام الله ويوم مبارك يدعى بيوم دحو الارض، هذه حقيقة تدل عليها  الآيتان في سورة النازعات وفي سورة الشمس، ففي سورة النازعات يقول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم Pوالأرض بعد ذلك دحاهاO وفي سورة الشمس يقول Pوالأرض وما طحاهاO.

والطحو والدحو بمعنى واحد، ومعناه انبساط الأرض من تحت الكعبة، وهذا اليوم يوم مهم، فكما تعرفون أن لكل وقت قيمة وبعض الأوقات لها قيمة ومكانة خاصة كما أن بعض الأماكن لها مكانة، فالأرض المباركة التي تقع فيها الكعبة المشرفة لها مكانة، والأرض التي دفن الإمام الحسين عليه السلام فيها لها مكانة خاصة عند الله. والأيام كذلك، في مثل هذه الأيام أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ببعض الأعمال.

جاء في كتاب مفاتيح الجنان للمحدّث القمي رضوان الله تعالى عليه: الليلة الخامسة والعشرون من ذي القعدة ليلة دحو الأرض، وهي ليلة شريفة تنزل فيها رحمة الله تعالى، وللقيام بالعبادة فيها أجرٌ جزيل.

ثم قال المرحوم المحدث القمي: اليوم الخامس والعشرون يوم دحو الارض وهو أحد الأيام الأربعة التي خُصّت بالصيام بين أيام السنة - مثل يوم الغدير - وروي أنّ صيامه يعدل صيام سبعين سنة، وهو كفارة للذنوب سبعين سنة على رواية أخرى، ومن صام هذا اليوم وقام ليلته فله عبادة مئة سنة، ويستغفر لمن صامه كل شيء بين السماء والارض. (لا يقول الملائكة أو الناس، بل يقول كل شيء) وهو يوم انتشرت فيه رحمة الله تعالى، وللعبادة والاجتماع لذكر الله تعالى فيه أجر جزيل.

وقد ورد لهذا اليوم سوى الصيام والعبادة وذكر الله تعالى والغسل عملان؛ الأول صلاة مروية في كتب الشيعة القميين القدامى، والثاني هذا الدعاء الذي نقله الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد وأوله: اللهم داحي الكعبة وفالق الحبة وصارف اللزبة وكاشف الكربة..."