۲٠۲۲/٠۹/٠۵ ۱٤:۱۱:۲٣
خطبة صلاة الجمعة 5 صفر 1444 لحجة الإسلام والمسلمين سماحة الشيخ حيدر نور الدين


                                                   بسم الله الرحمن الرحيم

 

خطبة الجمعة لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ الدكتور حيدر نور الدين (زيد عزه)، الجمعة 5 صفر 1444ه:

الخطبة الأولى:

يقول تعالى في كتابه العزيز المجيد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم Pيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْO (سورة محمد، 7).

 أيها الكرام، في هذه المحطة الأسبوعية نحن بحاجة إلى أن نتزود معرفياً ومعنوياً، وواحدة من فلسفات إقامة صلاة الجمعة هي هذه المسألة؛ أن نحمل زاداً علمياً ومعنوياً، لأن النفوس بحاجة إلى شحن دائم، ولأن القلوب بحاجة إلى صيانة وتزويد، فكانت هذه الصلاة، وكانت هاتان الخطبتان من أجل الزيادة في المعرفة والرقي في المستوى الإيماني والعلاقة بالله عز وجل.

محور الكلام حول الإيمان بالغيب ودوره في حياة المؤمن. يقول القرآن الكريم في أوائل سورة البقرة Pذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ Q الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..O. (سورة البقرة، 2-3)

صفات المتقين كثيرة أيها الأحبة، لكن هذه السورة ركزت على صفة من صفات المتقين، وهي الإيمان والاعتقاد بالغيب، أنت في كل يوم تقرأ الفاتحة وتقول في أولها: الحمد لله رب العالمين، أي العوالم، فالله عز وجل خلق عوالم كثيرة متعددة، عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الإنس وعالم الجن وعالم العرب وعالم العجم، هكذا يمكن أن يطلق في اللغة العربية.

وعالم الغيب عالم الملكوت الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، هو عالم تتعطل عنده العقول، هذا العقل الذي يحمله الإنسان وصفه الله عز وجل الله في كتابه فقال: Pوَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا O (سورة الإسراء، 85)، يعني أن عقل الإنسان محدود، مهما استطاع أن يقف على العلوم وعلى أسرار الكون والعوالم التي خلقها عز وجل، فإنه يقف مكتوفاً حائراً منحسراً لا يستطيع أن يدرك كثيراً من الأشياء.

من هنا بعد هذه المقدمة أدخل في صلب البحث: كيف يؤثر الاعتقاد بالغيب في إيماننا في حياتنا في علاقتنا بالله عز وجل؟ يقول الله تعالى في الآية الشريفة التي نحفظها جميعاً Pومن يتّقِ اللهَ يجعلْ لهُ مَخرَجَاً Q ويرزقْهُ مِنْ حيثُ لا يحتَسِبO (سورة الطلاق، 2-3)، يعني أن هناك مخارج من مشكلاتنا وحلولاً لأزماتنا لا يمكن أن تصل إليها حساباتنا، ومهما حَسَبَ الإنسان أو فكر أو برمج أو خطط ليخرج من هذه الأزمة فإن الله عز وجل يقول: أنا الذي أجعل الحلول، أنا الذي أخلق الحلول، أنا الذي أرفع الازمات.

لكن لرفع الأزمات وإيجاد الحلول شرطاً ذكرتْهُ بداية السورة وهو شرط التقوى، فالجعل من الله خلقٌ، وقد يكون هناك فرق أحياناً بين الخلق والجعل إلا أنه ينبغي أن نلتفت إلى أن الله عز وجل يقول: أنا أجعل لك مخرجاً وأخلق لك باباً تخرج به من أزمتك ومشكلتك، لكن عليك بالتقوى. 

كيف يجعل الله للإنسان مخرجاً من أزماته؟ يصرح القرآن الكريم لنا ببعض الأسباب والطرق التي تستنقذ الإنسان من الأزمات من المشكلات والمصائب - بشرط التقوى طبعاً - وسأذكر لك روايات تقشعر لها الأبدان في هذا المجال.

يقول عز وجل في كتابه Pوالذينَ جَاهَدوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسنينO (سورة العنكبوت، 69)، "الذين جاهدوا" مفهومٌ يدخل فيه التقوى ومجاهدة النفس، والتقوى ترك المحرمات وأداء الواجبات.

"لنهدينهم" سنجعلهم في طريق الهداية لدينهم وأمور دنياهم، فالطريق الأول للخلاص من بعض المشكلات بنص القرآن الكريم هو هداية الإنسان إلى الطريق الصحيح وإلى الصواب، إذاً هذا طريق معنوي، وسنعرض أيضاً طرقاً وأسباباً مادية يجعلها الله عز وجل حلاً لمشكلاتنا.

قال تعالى Pإنهمْ فتيةٌ آمنوا بِرَبّهمْO (سورة الكهف، 13) وماذا حصل بعدها؟ Pوَزِدْناهُمْ هُدَىO من هؤلاء؟ هم أصحاب الكهف الذين جرى الإيمان في قلوبهم ووجدانهم، فإن الله عز وجل أنزل لهم هداية زائدة ونجاهم من طاغوت عصرهم، والقصة معروفة عند الجميع.

إذاً: الإيمان والتقوى والجهاد يجعل الإنسان في خط الهداية إلى مصالحه ومنافعه، والهداية إلى درء الشر والفساد عنه، "وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم"، والآن أطرح لك شواهد قرآنية تقشعر لها الأبدان كيف تتدخل اليد الإلهية يد الغيب في حياة المسلمين، فتبدل المعادلات العسكرية والسياسية وغيرها، وسأضرب مثالاً حتى تتوجه إلى كيفية تدخل الله عز وجل في حياتنا عندما نستعمل التقوى والجهاد في سبيله.

في قصة بدر - والكل يعلمها - قال تعالى Pوَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىٓ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِىٓ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُO (سورة الأنفال، 44)، هذه الآية فيها درس عقائدي، ولو تلتفت إلى ما سأقوله الآن تغير طريقة تفكيرك ونظرتك إلى الحياة وترفع من مستوى إيمانك ويقينك وتسليمك لله عز وجل في كل شؤون حياتك، فاستمع لما سأقوله.

لما التقى المسلمون والمشركون كان المسلمون ثلاثمئة وثلاثة عشر شخصاً، وكان المشركون ألف شخص، والتقى العسكران، فيقول تعالى Pوإذ يريكموهم إذ التقيتم..O إن الله عز وجل أرى المسلمين عدد المشركين قليلاً، وللمثال أنا الآن أنظر إلى جمعكم فأقدر عددكم تقديراً قريباً من الواقع أو أراكم كما أنتم، ولكن الله عز وجل يقول في يوم بدر أنا جعلتُ المسلمين ينظرون إلى المشركين فيرونهم قليلاً، ونظام الرؤيا للعين أنه تخرج أشعة من الأجسام تصل إلى العين فتقرؤها العين، أي تقرأ الواقع، لكن متى ما أراد الله عز وجل أن ترى هذه العين رؤية أخرى بدّل هذا النظام وصارت هذه العين ترى بكيفية أخرى بمشيئة الله وقدرته.

Pويقللكم في أعينهمO أيضا المشركون لما كانوا ينظرون إلى المسلمين جعلهم الله يرون عدة المسلمين عدة قليلة فيستخفون بالاستعداد لهم، إذاً أيضاً قد غير الله نظام الرؤية عند المشركين، لماذا تغير نظام الرؤية عند المسلمين وعند المشركين؟ Pليقضي الله أمراً كان مفعولاًO أي أمر؟ إن الله عز وجل أراد أن يتقاتل المسلمون والمشركون في معركة بدر وينتصر المسلمون.

وختام الآية عظيم جداً حيث يقول سبحانه Pوإلى الله ترجع الأمورO يعني أن كل شيء في هذا الكون؛ قوانينه ونظامه وطريقة عمله ترجع إلى الله، فنظام رؤية العين بيد الله عز وجل متى شاء بدل الرؤية، ومتى شاء غير في حياتك ومتى شاء ألهمك، ومتى شاء أبعدك، ومتى شاء جعلك تنظر نظرة إيجابية، ومتى شاء جعلك تنظر نظرة سلبية، أو هيأ لك الأسباب للرزق وللجهاد وللخلاص من المشكلة، ومتى شاء رفع عنك المال والقدرة ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (سورة آل عمران، 26).

وفي آية أخرى Pإذ يغشيكم النعاس أَمَنَةً منهُO (سورة الأنفال، 11) لقد ألقى الله على المسلمين النعاس ليأمنوا لأن الخائف لا ينام، فحتى لا يتعب المسلمون أنزل الله عز وجل عليهم النعاس Pوينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجس الشيطانO، نزل المطر في هذه المعركة، إذ من شدة الحرارة أصيب أكثر المسلمين بالجنابة فكرهوا أن يقاتلوا وهم جُنُب فأنزل الله عز وجل عليهم المطر بغزارة حتى اغتسلوا جميعاً وصنعوا أحواضاً من الماء Pوليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدامO وكذلك ربط الله على قلب أم موسى، والربط على القلوب تثبيت القلوب من الله عز وجل بالمقابل: P فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَO (سورة الأنفال، 12)، مرة يلقي الله الرعب في قلوب المشركين ومرة يربط على قلوب المسلمين والمؤمنين، فالقلب يتقلب بين إصبعي الرحمن، متى شاء الله وجّهَ هذا القلب ومتى شاء حجبه، وهناك أمثلة قرآنية كثيرة، وأنتقل إلى الروايات التي تتحدث عن الأمور الغيبية التي لا تصل إليها عقولنا وإدراكاتنا، والتي تتدخل في حياتنا وتنقذنا في كثير من المواقف فتتحول حياتنا ونحن لم نكن نتوقع ذلك.

يقول مولانا عَلِيٍّ (عليه السلام) "كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام خَرَجَ يَقْتَبِسُ لِأَهْلِهِ نَاراً فَكَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فَرَجَعَ نَبِيّاً ، وَخَرَجَتْ مَلِكَةُ سَبَإٍ فَأَسْلَمَتْ مَعَ سُلَيْمَانَ، وَخَرَجَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ لِفِرْعَوْنَ فَرَجَعُوا مُؤْمِنِينَ " (أمالي الصدوق، 178)، قال تعالى Pفَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ Q فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَO (سورة القصص، 29)، قال لأهله أنا أرى ناراً وسأذهب وأستطلع إذا كان ثمة خبر، هل هذه النار هي مصدر خير  أو -لا سمح الله - مصدر شر؟ إلى أين كان يريد أن يذهب؟ إلى مكان النار لعله يأتي بقبس من النار يستدفئ بها أهل بيته لعله يأتي بخبر أن هذه النار مصدر خير أو شر، فجأة يناديه الله عز وجل قال أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين.

ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن هناك أيها الأحبة أموراً وأسباباً لا تصل إليها عقولنا، يضعها الله في طريقنا، فموسى (عليه وعلى نبينا وآله السلام) ما كان يتوقع البعثة، إنما صعد إلى الجبل ليستطلع وضع النار، وهكذا حال ملكة سبأ أيضاً، ما خرجت لتؤمن، ولكن الله وضع سليمان في طريقها فآمنت، وهكذا السحرة الذين كانوا عند فرعون، خرجوا لينافسوا موسى (سلام الله عليه) وإذا بهم خروا ساجدين.

إذاً عندما يقول صدر الرواية كن لما لا ترجوه أرجى منك لما ترجوه يعني عندك أشياء لا ترجوها وأمور لا تتوقعها، اجعل أملك فيها أكبر من الأشياء التي تتوقعها، ولذلك موسى وفتاه ذهبا للغداء فالتقيا بالخضر عليه السلام، وجرى حوار بينهما وتبعه موسى وتعلم منه.

أيها العزيز، إن الموازين التي نقيس بها حياتنا في جميع الجوانب ينبغي أن نجعل فيها للغيب والقدرة الإلهية مجالاً، لأنها تتدخل، فلا تعتمد الأسباب التي تعرفها فقط، لأن الأسباب بيد الله عز وجل، أسباب الشفاء وأسباب النجاة كلها بيد الله، ولذلك الحديث يقول: "كم من دنف قد نجا وصحيح قد هوى، وقد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً" (بحار الأنوار، ج74، ص212) يعني هناك إنسان يكون مريضاً قريباً من الموت فينجو وهناك إنسان صحيح سالم فجأة يسقط، وقد يكون اليأس إدراكاً، هذا بحاجة إلى بيان، يعني إذا بلغت درجة اليأس في بعض أمورك سينقلب اليأس إلى فرج وإدراكٍ للحل.

وقد نسب إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال أبياتاً من الشعر:

إذا النائباتُ بلغنَ المدى    وكادتْ تذوبُ لهنَّ المهجْ

وجلَّ البلاءُ وبانَ العزاء   فعندَ التناهي يكون الفرج

ما معنى هذين البيتين؟ يعني لما تصبر وتصبر إلى أن تصل إلى درجة اليأس أو قريباً من اليأس عند التناهي يكون الفرج، لماذا يصبر الإنسان؟ حتى يرتقي في صفاته ويدخل في الصابرين، ولذلك لما رأى الحسين صلوات الله وسلامه عليه جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا وهو يودعه على قبره، اعتنق الحسين جده رسول الله وصار يبكي، قال: يا رسول الله، خذني إليك لا أريد الدنيا، قال يا حسين إن لك درجة عند الله لا تبلغها إلا بالشهادة، ولذلك أبرز صبره (صلوات الله وسلامه عليه).

الخطبة الثانية:

 أيها الأحبة، شهر صفر شهر السبايا، شهر سبي بنات الزهراء (صلوات الله عليها)، ومن يتأمل في سر اصطحاب الحسين (عليه السلام) نساءه وعياله يدرك أن ثورة الحسين كانت ثورة إلهية، وقيام الحسين كان قياماً لله عز وجل، وله هدف هو إحياء الدين، وقد عنون الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ثورته بعنوان واضح: "ما خرجت أشراً ولا بطراً ...إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ..."، وحقيقةً ينبغي أن نقف عند هذه الجملة "الإصلاح في أمة محمد صلى الله عليه وآله"، وأنا وأنت من أمة محمد، وقد خرج الحسين لإصلاح حالنا، لذلك إذا اقترف أحدنا ذنبا أو تجرأ على معصية، كبيرة كانت أو صغيرة، لا بد أن يخجل من الحسين (صلوات الله عليه) لأنه ثار حتى نجتنب المعاصي ونترك المنكرات.

لماذا اصطحب معه النساء؟ المهمة الأساسية للنساء وللإمام زين العابدين (سلام الله عليه) هي الحفاظ على بركات دماء الحسين أولاً، زينب (عليها السلام) تحفظ شخص الإمام زين العابدين، وتعلمون أنه لما استغاث الحسين (عليه السلام) - وما أكثر ما استغاث في كربلاء - واحدة من هذه المرات رقَّ قلبُ الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال عمة أعطيني العصا والسيف، أوما تسمعين ابن بنت رسول الله يقول ألا هل من ناصر ينصرنا؟ فصاح الحسين (عليه السلام) بها: أخية، رُدّيه حتى لا تخلو الأرض من نسل آل محمد. ولما أراد الظالم أن يقتل زين العابدين (عليه السلام) تعلقت زينب - وأنت في جوارها صلوات الله عليها - فكانت مهمتها حقيقة الحفاظ على شخص زين العابدين (صلوات الله عليه).

وأيضاً منع تحوير الحق؛ يعني لما يقول ابن زياد كيف رأيت فعل الله بأخيك الحسين؟ تمنعه زينب (عليها السلام) من أن يبدل الحقائق ويحرفها فتجيب: ما رأيت إلا جميلاً، ومن جهة أخرى فإن الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما قال له ابن زياد: من أنت؟ قال أنا علي، قال: أوليس قد قتل الله علياً؟ قال: كان لي أخ نسميه علياً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل قتله الله، فقال الإمام: الله يتوفى الأنفس حين موتها، قال: أَوَلَك جرأة على الرد عليّ؟ خذوه فاقتلوه. وهنا مرة أخرى تعلقت زينب صلوات الله وسلامه عليها بزين العابدين (عليه السلام).

كما خطب زين العابدين (عليه السلام) في الشام خطبته المعروفة في ظل حرب إعلامية لتشويه صورة أهل البيت (عليهم السلام) تروج إلى أن هؤلاء سبايا مثلاً من الروم من خارج العالم الإسلامي، هكذا كانوا يصورون، وبالفعل يحدثنا التاريخ أن بعض الناس اغتروا وتصوروا أنهم سبايا أجانب في مجلس يزيد، فذاك الذي يطلب فاطمة بنت الحسين يقول: يا أمير هب لي هذه الجارية،  فتقول زينب: ليس هذا لك ولا له أيها الشامي، قال يزيد: بلى، لي وإن شئت فعلت، قالت لا والله ليس لك إلا أن تخرج عن دين الإسلام، قال: إنما خرج من الإسلام أبوك  وأخوك، قالت بدين أبي ودين أخي أسلمت أنت وأبوك إن كنت مسلماً.

هذه المواقف من زينب (صلوات الله عليها) منعت تحوير الحقائق، كما أنها صلوات الله عليها كانت تضفي على هذه الحمايات جانباً عاطفياً فالمسألة ليست مسألة فكر واعتقاد ومبدأ، بل عاطفة أيضاً، حيث كانت تزرع في وجدان الأمة أن هذا المقتول المذبوح الذي احتزوا رأسه من القفا هو عزيز رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، فانظر إلى هذه المواقف الشجية والمحزنة الكثيرة. لذلك أراد الحسين (عليه السلام) اصطحاب النساء والعيال؛ من أجل أن تبقى مصيبته في وجدان الأمة، ولذلك عندما تقرأ في بعض الزيارات تجد تصويراً عظيماً ودقيقاً جداً لما جرى على الحسين (عليه السلام) تقول في هذه الزيارة: "قَدْ عَجِبَتْ مِنْ صَبْرِكَ مَلائِكَةُ السَّمَاوَاتِ، فَأحْدَقُوا بِكَ مِنْ كِلِّ الجِّهَاتِ، وأثْخَنُوكَ بِالجِّرَاحِ، وَحَالُوا بَيْنَكَ وَبَينَ الرَّوَاحِ، وَلَمْ يَبْقَ لَكَ نَاصِرٌ، وَأنْتَ مُحْتَسِبٌ صَابِرٌ" وأنت تنادي هل من ناصر ينصرنا؟ ألا هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ ماذا تفعل؟ "تَذُبُّ عَنْ نِسْوَتِكَ وَأوْلادِكَ، حَتَّى نَكَّسُوكَ عَنْ جَوَادِكَ، فَهَوَيْتَ إِلَى الأرْضِ جَرِيْحاً، تَطَأُكَ الخُيولُ بِحَوَافِرِهَا، وَتَعْلُوكَ الطُّغَاةُ بِبَوَاتِرِها، قَدْ رَشَحَ لِلمَوْتِ جَبِيْنُكَ، واخْتَلَفَتَ بالاِنْقِبَاضِ والاِنْبِسَاطِ شِمَالُكَ وَيَمِينُكَ، تُدِيرُ طَرَفاً خَفِيّاً إلى رَحْلِكَ وَبَيْتِكَ، وَقَدْ شُغِلْتَ بِنَفسِكَ عَنْ وُلْدِكَ وَأهَالِيكَ" لذلك خاطبته زينب" بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، والشِّمْرُ جَالِسٌ عَلى صَدْرِكَ، وَمُولِغٌ سَيْفَهُ عَلى نَحْرِكَ، قَابِضٌ عَلى شَيْبَتِكَ بِيَدِهِ، ذَابِحٌ لَكَ بِمُهَنَّدِهِ، قَدْ سَكَنَتْ حَوَاسُّكَ، وَخفِيَتْ أنْفَاسُكَ، وَرُفِع عَلى القَنَاةِ رَأسُكَ.
وَسُبِيَ أهْلُكَ كَالعَبِيدِ، وَصُفِّدُوا فِي الحَدِيْدِ، فَوقَ أقْتَابِ المطِيَّاتِ، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ حَرُّ الهَاجِرَات، يُسَاقُونَ فِي البَرَارِي وَالفَلَوَاتِ، أيْدِيهُمُ مَغْلُولَةٌ إِلَى الأعْنَاقِ، يُطَافُ بِهِم فِي الأسْوَاقِ، فالوَيْلُ للعُصَاةِ الفُسَّاقِ. لَقَد قَتَلُوا بِقَتْلِكَ الإِسْلامَ، وَعَطَّلوا الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ، وَنَقَضُوا السُّنَنَ وَالأحْكَامَ، وَهَدَّمُوا قَوَاعِدَ الإيْمَانِ، وحَرَّفُوا آيَاتَ القُرْآنِ.

وأختم الكلام فيما جرى في الأزمة في العراق. إنّ المرجعية تشكل صمام الأمان، والمرجع الحائري الذي يشكل المرجعية الأولى لآل الصدر، والذي تبوأ عن الشهيد الصدر الأول والثاني مرجعية هذه الشجرة، التي كان لها دور ديني وسياسي كبير في العراق، قد قام بدور عظيم جداً من أجل تهدئة الأمور، حيث اعتزل المرجعية، وهذا الاعتزال منعدم النظير، أو يكاد أن يكون كذلك، ثم أرجع المرجع الحائري الأمة - كل الأمة - بما فيهم أتباع الصدر إلى الإمام الخامنئي (دام ظله)، وألزم الأمة بإطاعته.

ولا بد أن نفهم اعتزال المرجع عن مرجعيته فهماً يناسب كونه من عمالقة المنظرين لولاية الفقيه، هذا المرجع له كتب كثيرة في نظرية ولاية الفقيه، وكثيراً ما كان يدور بحثه في درس الخارج حول الإسلام السياسي والقيادة في الإسلام، وقد ألّف فيها بعض المؤلفات، ولطالما بيّنَ السيد مقتدى الصدر لأنصاره المقام العلمي للسيد الحائري.

نحن نتوقع بهذه الخطوة المباركة من المرجع أن تخمد هذه الفتنة إن شاء الله، باعتزال السيد مقتدى الصدر واختياره العزلة السياسية ما دام المرجع الحائري على قيد الحياة، وهذا ما كانت ترنو له هذه المرجعية الرشيدة؛ أن يحدث الاستقرار في عراق المقدسات.