۲٠۲۲/٠۹/۱۲ ۱۲:٤۲:۱۲
خطبة صلاة الجمعة 12صفر 1444 لحجة الإسلام والمسلمين سماحة الشيخ نبيل حلباوي


                                           بسم اللّه الرحمن الرحيم

 

خطبة الجمعة لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ الدكتور نبيل الحلباوي (زيد عزه)، الجمعة 12 صفر 1444هـ.

الخطبة الأولى

إننا في واحد من بيوت الله، في هذا المقام، مقام السيدة زينب عليها السلام، هذا المقام الذي قال فيه ربه P فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِQ  رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُO (سورة النور، 36-37) و العنوان البارز لهذا المصلى في ظلال ذلك المقام هو: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه" فنحن مع ذكر الله في هذا المكان، ونحن في يوم الجمعة الذي قال فيه ربه P يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ O (سورة الجمعة، 9)، إذاً أيضاً نحن في موسم أسبوعي من مواسم ذكر الله التي نوه بها القرآن الكريم، وكلنا يعلم ما أعده الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات Pوَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًاO  (سورة الأحزاب، 35)، وفي المقابل حذر سبحانه وتعالى فقال: Pوَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًاO (سورة طه، 124)، أي له معيشة ضيقة، من الناحية المعنوية وليس الناحية المادية فقط، هذا في الدنيا، وماذا عن الآخرة؟ Pوَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰQ قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتنى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً Q قَالَ كذلك أَتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسىO  (سورة طه 124- 126) كان ينسى ذكر الله ولا يحيا به في الدنيا، فكان جوابه: وكذلك اليوم تنسى.

إن لذكر الله أهمية لا نظير لها؛ لأنه أولاً من أعظم مصاديق العلاقة بين الإنسان وبين الله تعالى، أن تكون ذاكراً لله يعني أنت تستحضر أيها الإنسان أنك لست إلا علاقة بالله، فاقة إلى الله، فقراً إلى الله عز وجل، ووجودك كله محض علاقة بالله، فالله له الوجود المستقل المطلق لكن ْكل من عدا الله وجوده وجود تعلُّقيّ.

فمن أعظم مصاديق تدبر هذا المعنى أن أعرف أني علاقة بالله، فأوثق العلاقة بالله وأحققها إرادياً، كما أنني تكوينياً علاقة بالله فإنني كسبياً وإرادياً وعشقياً أيضاً أحاول أن أوثق هذه العلاقة، فإذا أقيمت هذه العلاقة عند ذلك يتحقق ذلك الوعد الإلهي العظيم هنا يقول عز من قائل Pفاذكروني أذكركمO (سورة البقرة، 152)، يعني أنت تذكر الله لتترجم هذه العلاقة وتؤكدها بينك وبين الله، فإذا ذكرت الله ذكرك الله، وما ظنك بذكر الله للعبد؟ هذا مقام رفيعٌ رفيع ما أفضل أن نتنافس في الانطلاق إليه.

النقطة الثانية في أهمية ذكر الله عز وجل: أن الله عز وجل اعتبر ذكر الله من أبرز سمات المؤمن، كيف تعرف أنه مؤمن بالله؟ من علامات وسمات المؤمن بالله أنه دائب في ذكر الله، متيم عاشق لذكر الله عزّ وجل، فيقول عز من قائل Pيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِO (سورة المنافقون، 9)، إذا كنتم مؤمنين فعلامتكم أنْ لا شيء يلهيكم عن ذكر الله، لا المال ولا الأولاد، مع أن المال زينة الدنيا كما قال الله سبحانه، لكن نحن نذهب إلى من رزقنا المال والأولاد، ومن رزقنا وجودنا ومن إليه معادنا ومن بيده ناصيتنا ومن لا نملك لأنفسنا من دونه شيئا ًP وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا O(سورة الفرقان، 3)، فنؤكد هذه المالكية ونتوجه إلى الله عز وجل.

 النقطة الثالثة في أهمية ذكر الله عز وجل: هي أن الله عز وجل حدد لنا الهدف من وجود الإنسان والجن فقال: Pوما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا لِيَعبُدُونِO (سورة الذاريات، 56)، فجعل هدف خلق الإنسان عبادة الله عز وجل، ولكن هل هذا الهدف هو هدف لله عز وجل؟ حاشا لله؛ فالله لا يطلب هدفاً لنفسه كأمثالنا، إذ نحن نسعى في كل عمل لنحقق هدفاً، أما الله تعالى فكل الوجود بيده، إذاً لمن هذا الهدف؟  لنا نحن، وقد بينهُ الله لنا فقال اجعلوا هدفكم من هذا الخلق الذي أنعمت به عليكم أن تعبدوا الله عز وجل، لأن عبادة الله هي أول طريق الكمال والعروج إلى الله عز وجل، ومن لم يعبد الله فلا حظ له من الكمال، مهما أوتي من العلم ومهما أوتي من المال ومهما أوتي من السلطة، هو إنسانياً فارغ خاوٍ خالٍ من كل قيمة عند الله عز وجل.

إذاً فهمنا أن الهدف من خلق الله - بالنسبة للإنسان والجن - هو عبادة الله، لكن عبادة الله جعلت في كثير من الآيات بهدف ذكر الله عز وجل، فالصلاة وهي عمود الدين ومعراج المؤمن قال الله عنها Pوأقم الصلاة لذكريO (سورة طه، 14)، فالصلاة إنما الهدف منها أن تكون في ذكر الله، أن تتشبع بذكر الله وأن يشع وجودك بذكر الله عز وجل.

وفي الحج يقول Pفإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراًO (سورة البقرة، 200) أي إذا قضيتم مناسككم توجهوا إلى الله واذكروه واشكروه، وقولوا: إن كل هذا الذي قمنا به إنما هو ذكر لك يا رب نتشرف به ونأنس به.

 النقطة الرابعة: هي التي أشرت إليها في أول المقدمة؛ أن فلسفة إقامة المقامات عندنا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي أنها أمكنة لذكر الله عز وجل، قلت "في بيوت أذن الله أن ترفع". الناس في ذلك الزمان كان لهم الصولة والجولة، والدولة والسلطة، ولكن لم يبقَ لهم ذكر ولم يقم لهم مقام، في حين أن زينب (عليها السلام)، سيدتنا ومولاتنا بطلة كربلاء عقيلة بني هاشم التي جاءت إلى هذا المكان البعيد في الريف قام لها هذا المقام العظيم الذي لا نظير له.

إذاً "في بيوت أذن الله أن ترفع" هذا بإذن الله وبتوفيقه، وهذا في الدنيا فما بالك بالآخرة؟ إذاً أنتم حيثما تكونون في هذه المقامات فأنتم في ذكر الله فهنيئا لكم بهذا المقام.

النقطة الخامسة التي أتعرض لها: تحدثنا عن مقدمة وأهمية ذكر الله، والآن نتناول ألوان ذكر الله، كيف أذكر الله؟

بالطبع قبل أن أدخل في أنواع ذكر الله أقول ألواناً وأشكالاً من ذكر الله، مثلاً التكبير ذكر لله، أن تقول الله أكبر فأنت تذكر الله، والتحميد ذكر الله، فبقولي الحمد لله أنا أذكر الله، والتسبيح ذكر الله بأنْ تقول سبحان الله، وكذلك التعقيبات الفاطمية (تسبيح فاطمة عليها السلام)، والتهليل ذكرٌ بأن تقول لا إله إلا الله، والشكر لله ذكرُ "اذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" فالشكر لون من الذكر، والاستغفار ذكر لله عز وجل، والنداء حين تنادي وتقول يا الله يا الله، فتستغيث بالله وتنادي الله وتناجيه فهذا ذكر لله عز وجل، وكل ألوان الدعاء هي ذكر لله عز وجل، وقراءة القرآن ذِكرٌ Pولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكرO (سورة القمر، 22)، والصلاة على محمد وآل محمد هي من ذكر الله عز وجل.

من أنواع الذكر أنه تارة يكون الذكر لسانياً، يعني أن تذكر بلسانك بأن تقول يا الله، لا إله الا الله، الحمد لله، ثم الذكر القلبي؛ أن ينبض قلبك بذكر الله، أن يجري الدم في عروقك بذكر الله، أن يشع وجودك بذكر الله عز وجل، أن تمتلئ أقطار نفسك بذكر الله عز وجل، وحين يعيش الإنسان حالة الذكر فهذه حالة عظيمة ومهمة جداً. ثم إذا جمعت بين الذكر اللساني والذكر القلبي فهو أحسن.

والإمام الخميني (رضوان الله عليه) هذا العارف العظيم الذي كان قائد الأمة ومفجر ثورتها ومقيم دولة الإسلام في هذا الزمان، قد سُئل مرة عن فائدة الذكر اللساني وقيل له: لماذا لا نركز على الذكر القلبي؟ قال: لا، الإنسان الذي يريد أن يدرب نفسه يجب دائماً وأبداً أن يذكر بلسانه، فلا يزال اللسان يذكر ويذكر ويذكر، فكأنه هو المعلم والقلب هو التلميذ، فأنا أقول بلساني "يا الله يا الله يا الله" فقلبي يتأثر ويتعلم ويتهذب ويرقى بذكر الله، حتى إذا صار القلب ذاكراً انقلبت القصة فصار القلب هو التلميذ الذي فاق أستاذه، وصار هو الذي يذكر واللسان يترجم عن القلب.

ومن ألوان الذكر هو الذكر الموقِفيّ؛ يعني أن تذكر الله في كل موقف، أن تذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، أن تذكر الله عندما تخاف من أمر، أن تذكر الله عندما تقدم على أمر، أن تذكر الله إذا طافت ببالك معصية، أن تذكر الله حين يطلب إليك الجهاد في سبيل الله والقيام بالواجب، أن تصدع بالحق، هذه كلها من ذكر الله، فيجب أن يتجلى في كل موقف من مواقف حياة الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.

وأكثر من ذلك: أن يظهر هذا الذكر في الخط الذي تخطه في هذه الحياة الدنيا، أنت الآن في أي خط؟ مع محور المقاومة في مقابل أعداء الأمة؟ مع ولاية الفقيه؟ فهنيئاً لك فقد اكتشفت الخط الذي يترجم ذكر الله في هذا الزمان وفي هذه الظروف.

وأما آثار ذكر الله فمنها الأثر التربوي؛ أي إن ذكر الله يربي الإنسان ويقف سداً بينه وبين المعاصي والفواحش والأخطاء، بل يجعله على الأقل لا يصر على الخطأ.

يقول الله عز من قائل P وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ O (سورة آل عمران، 135) هذه تربية عظيمة للإنسان المؤمن، نعم عليه ابتداءً ألا يقع في الخطأ أو في الفاحشة أو أي شيء من حق الله، وعليه أن يلتزم بأوامر الله وأن يبتعد عن معاصي الله، لكن حتى لو غفل للحظة معينة مع الله يجب أن يذكر الله عز وجل ويبادر للاستغفار وألا يصر على ما فعل.

وكذلك الأثر القلبي الروحي المعنوي، حيث يقول عز من قائل Pإِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَO (سورة الأنفال، 2) فمن علامات المؤمن أنه إذا ذكر الله وجل قلبه، أي خشع وخضع وخاف الله.

وأيضاً التأثير القلبي، وهو الطمأنينة، وقد قال تعالى Pالذين آمنوا وتطمئنُّ قُلُوبُهُم بِذِكر الله ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُّ القلوبO (سورة الرعد، 28)، ولا طمأنينة للقلب إلا بذكر الله، وهنيئاً لمن يذكر الله فهو في طمأنينة في كل حالاته، وسترجع نفسه إلى الله في آخر المطاف أيضاً مطمئنة Pيا أيتها النفس المطمئنة Q ارجعي إلى ربك راضية مرضية Q فادخلي في عبادي Q وادخلي جنتيO (سورة الفجر، 27-30 ) وهذا هو الأثر الأخروي، وهو متعلق بما قلناه في أول كلامنا "والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً".

الخطبة الثانية

عندنا سلاح نحن معشر المؤمنين أفراداً ومجتمعات وأمة، زودنا الله به ولا نظير له ولا يملكه أعداؤنا؛ وهو ذكر الله عز وجل بكل هذه الآفاق التي تحدثت عنها، إذاً لا نبالي ولا نخاف وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا، كما كان يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

المعركة قادمة وقريبة والمنازلة الكبرى بين محور المقاومة وبين أعدائه - ولا سيما العدو الصهيوني - بدأت تلوح في الآفاق، و"كاريش" هي الآن النقطة الساخنة الملتهبة خلال هذا الشهر، ونحن على ثقة طالما أننا نذكر الله عز وجل أن الله بإذنه الله سيديل لنا من عدونا وسيريه ما لم يخطر له على بال، ولن يكون الجليل بمنأى عن أبطال فرقة الرضوان ان شاء الله وسيلتقي هذا المحور المبارك الممتد من إيران الإسلام إلى سورية المقاومة والممانعة إلى فلسطين الجهاد إلى لبنان حزب الله إلى عراق الحشد الشعبي إلى يمن الحوثيين الأبطال.

إن هذا المحور إن شاء الله سيفاجئ العدو بما لم يخطر له على بال، ولكنني أقول لكم: هذا النزال ليس نزالاً هيناً وأنتم أدرى، لكن من قال بأن الإنسان يمكنه الوصول للجنة وهو نائم في فراشه؟ لا بد أن نتحمل ونصبر ونذكر الله، فعند ذلك لن يخيفنا شيء بل سنخيف أعدائنا وسترون أن المعادلة ستنقلب وسيخاف عدونا منا.

أمس ماتت الملكة إليزابيت الثانية التي بلغت ستاً وتسعين من السنين، وبدؤوا يكيلون لها المديح، وكذا نحن نقول لهم هي ملكة لكم، لكن تعالوا نقرأ تاريخ بريطانيا خلال سبعين سنة التي حكمتها هذه الملكة، كلها اعتداء على الدول وسرقة للشعوب وتدبير للمؤامرات، وإحداث للفتن على كل الصعد.

فتِشوا عن بريطانيا، هذا الثعلب الماكر العجوز، فتشوا عنها في كل مصائب الأمة، فهي لم تترك بلداً إلا تركت فيه بؤراً للصراع والمشكلات.

فإذاً نحن كما قلتُ ذاهبون بإذن الله إلى منازلة كبرى، قد تتأجل قليلاً أو تقترب كثيراً ولنا أمل بالله ونعول على ذكر الله، مع الإعداد والاستعداد واليقظة وبذل كل الجهد P وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ O (سورة الحج، 40).