الشهید الأول


الشهيد السعيد محمد بن جمال الدين مكي بن شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد المطّلبي، الجزيني، العاملي، الدمشقي، الشهير بـ(الشهيد الأول)، ولد سنة 734هـ في قرية جزّين في جبل عامل، في عهد سلطان دولة المماليك البرجية (برقوق)، تلقى علومه الأولية في اللغة العربية في جبل عامل، ثم هاجر إلى العراق سنة 750هـ، فقرأ على فخر المحققين ولد العلامة الحلي الذي أجازه في داره في الحلة سنة 751هـ، كما أجازه ابن نما الحلي بعد هذا التاريخ بسنة واحدة، وأجازه ابن معيّة بعد سنتين، وبقي في العراق خمس سنين، ثم عاد إلى بلاده، حيث أسس فيها مدرسة جزين، واستفاد في دمشق من قطب الدين محمد ابن محمد الرازي المتكلم تلميذ العلامة الحلي، وحصل منه على إجازة سنة 766هـ، ويروي المؤرخون لحياته أنه أخذ علومه عن أكثر من ألف من العلماء والفقهاء من بلاد الإسلام المختلفة، بعد أن قضى شطراً كبيراً من عمره سعياً وراء العلم والمعرفة، فزار مصر والشام والعراق وفلسطين والحجاز، ويقول عن نفسه في إجازته لابن خاتون: وأما مصنفات العامة ومروياتهم فإني أرويها عن نحوٍ من أربعين شيخاً من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام وبغداد ودمشق وبيت المقدس ومقام إبراهيم الخليل(ع)، وقد رويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بِسندهم إلى البخاري، وكذلك صحيح مسلم، ومسند أحمد، وموطّأ مالك، ومسند الدارقطني، ومسند ابن ماجه، والمستدرك على الصحيحين.

لذلك أصبح الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي في عصره مرجعاً، في الأحكام الشرعية على المذاهب الفقهية الخمسة، وكان بينه وبين سلطان خراسان علي بن المؤيد مكاتبة، طلب منه السلطان الحضور إلى بلاد خراسان، والإقامة عنده، ولكن الشيخ أبى واعتذر عن الحضور وكتب له كتاب: اللمعة الدمشقية، في سبعة أيام ليكون هذا الكتاب دستور بلاد خراسان، وقد أصبح فيما بعد من أهم الكتب التي تدرس في الحوزات العلمية الشيعية منذ ذلك العصر وحتى هذا اليوم.

وقد شهدت سنوات القرن الثامن للهجرة (780هـ) في بلاد الشام ازدهاراً علمياً للشيعة الإمامية – على الرغم من الظلم والملاحقة التي تمارسها السلطات المحلية – وأصبحوا قوةً يُحسب لها حساب، بقيادة الشهيد الأول، الذي كان قد أصبح رقماً في معادلة سلطة المماليك البحرية (الأتراك)، فلم يستطع نواب دمشق إلا التعامل معه على أساس يضمن الحرية المعتدلة له ولأتباعه مقابل الحفاظ على مصالح الدولة الأمنية بل أصبح جزءاً من تشكيلة السلطة المملوكية (الترّكية)، ومن المحافظين عليها وعلى أمنها، وسعى في نشر مذهب أهل البيت(ع) في جو من التآلف ونبذ الخلافات، وجدّ في التحريض على الإلتزام بالشريعة الإسلامية، والرد على أهل البدع والشعوذة.

وأكد ذلك على وجود الحركة الشيعية والغالبية الأكثرية، كما ذكر ذلك ابن بطوطة في كتابه المشهور «رحلة ابن بطوطة» وغيره...

- مكاتبة علي بن مؤيد سلطان خراسان للشهيد الأول:
انتقل الشهيد الأول للإقامة في دمشق بعد أن كثرت علاقاته وارتباطاته وأصبح بيته آهلاً بمختلف طبقات المجتمع من علماء ووجهاء -شيعة وسنة- من دمشق وخارجها، وذلك من خلال وجوده بين الناس في كل تلبية حاجاتهم وإلقاء الدروس الدينية وحضور المناسبات المختلفة وفي أثناء وجوده في دمشق وصلته رسالة علي بن مؤيد صاحب خراسان الذي كانت تربطه به صلات حسنة منذ أن التقى به في العراق يدعوه بها إلى بلاد خراسان لتوليته المنصب الذي يؤهله للعمل والقيادة الدينية وإرشاد العباد إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وهذا نص الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام كَنَثْرِ العنبر المتضوّع
                         يُخَلِّفُ ريح المسك في كل موضع

سلام يباهي البدر في كل منزل
                      سلام يضاهي الشمس في كل مطلع

على شمس دين الحق دام ظلاله
               بجد سعيد في نعيم ممتع
 

أدام الله مجلس المولى الإمام، العالم العامل الفاضل، الكامل، السالك الناسك، رضي الأخلاق، وَفِيِّ الأعراق، علامة العالم، مرشد طوائف الأمم، قدوة العلماء الراسخين، أسوة الفضلاء المحقين، مفتي الفرق، الفاروق بالحق، حاوي فنون الفضائل والمعالي، حائز قصب السبق في حلبة الأعاظم والأعالي، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، محيي مراسم الأئمة الطاهرين، سر الله في الأرضين، مولانا شمس الملة والحق والدين، مد الله أطناب ظلاله بمحمد وآله في دولة راسية الأوتاد ونعمة متصلة الأمداد إلى يوم التناد وبعد:
فالمحب المشتاق إلى كريم لقائه غاية الاشتياق، وأن يتشرف بعد البِعاد بقرب التلاق..

حُرم الطرف من محياك لكن
                        حظي القلب من حمياك ريّا
 
يُنهي إلى ذلك الجناب، لا زال مرجعاً لأولي الألباب: أن شيعة خراسان (صانها الله تعالى عن الحدثان) متعطشون إلى زلال وصاله، والاغتراف من بحار فضله وإفضاله، وأفاضل هذه الديار قد مزقت شملهم أيدي الأدوار، وفرقت جُلّهم بل كلهم صروف الليل والنهار، وقال أمير المؤمنين(ع): ثلمة الدين موت العلماء. وإنا لا نجد فينا من يوثق بعلمه في فُتْيَاه، أو يهتدي الناس برشده وهداه، فيسألون الله تعالى شرف حضوره، والاستضاءة بأشعة نوره، والاقتداء بعلومه الشريفة، والاهتداء برسومه المنيفة، واليقين بكرمه العميم، وفضله الجسيم، أن لا يخيب رجاؤهم، ولا يردّ دعاؤهم، ويسعف مسؤولهم، وينجح مأمولهم:

إذا كان الدعاء لمحض خير
                      على يديِ الكريم فلا يُردُّ
 
امتثالاً لما قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»  (سورة الرعد الآية 21.).

ولا شك أن أولى الأرحام بِصِلَة الرحم الإسلامية الروحانية، وأحرى القرابات بالرعاية القرابة الإيمانية، ثم الجسمانية، فهما عقدتان لا تحلهما الأدوار والأطوار، بل شعبتان لا يهدمهما إعصار الأعصار، ونحن نخاف غضب الله على هذه البلاد لفقد المرشد وعدم الإرشاد، والمسؤول من إنعامه العام، وإكرامه التام، أن يتفضل علينا ويتوجه إلينا متوكلاً على الله القدير، غير متعللٍ بنوع من المعاذير، فإنا بحمد الله نعرف قدره، ونستعظم أمره، إن شاء الله والمتوقع من مكارم صفاته، ومحاسن ذاته إسبال ذيل العفو على هذا الهفو، والسلام على أهل الإسلام (الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج6 ص190، و ج14 ص44-51. ).

فلما وصل الكتاب إلى الشيخ محمد بن مكي أبى التوجه إلى خراسان، واعتذر إلى سلطانها أن بلاده بحاجة ماسة إلى وجوده، وصنف له كتاب اللمعة الدمشقية ليكون دستوراً لبلاده، وبعثه مع شمس الدين الآوي إلى السلطان.

ثقل أمر الشيخ على خصومه من المتعصبين والمبتدعين والنفعيين فأخذوا يثيرون الوشايات والضغائن حوله حتى سجن في قلعة دمشق سنة كاملة، وذكره البغدادي قائلاً: هو من غلاة الشيعة مات مقتولاً بدمشق سنة 782هـ (هدية العارفين ج2 ص171 )،  والصحيح أنه استشهد سنة 786هـ/1366م على أثر دسيسةٍ لدى السلطات المملوكية في مدينة دمشق، حيث عُمل محضر نُسبت فيه إليه أقاويل منكرة ورفعت إلى القاضي برهان الدين إبراهيم ابن جماعة فأنفذه إلى القاضي المالكي الذي عقد مجلساً حضره قضاة دمشق وغيرهم بمحضر الشهيد الذي وجّهت إليه تلك التهم فأنكرها، ورغم ذلك أفتى القاضي المالكي بإباحة دمه (موسوعة طبقات الفقهاء ج8 رقم 2835 ص231-237 )، فقتل بالسيف، ثم صلب، ثم أحرق، ولذلك ليس له قبرٌ يُزار، ولكن الشيخ محمد رضا شمس الدين قال: وقيل: إنه جمع رفاته بعد الإحراق ودُفن في الشام، وقد أخبرني بعض أدباء النجف المعروفين أنه شاهد قبره وعليه اسمه في الشام ( معالم الشام وأعلامها ج3 ص323 نقلاً عن حياة الإمام الشهيد الأول ص6).
نماذج من شعره:

الأولياء تمتعوا بك في الدجى
                  بِتهجدٍ وتخشعٍ وحنين

فطردتني من فرع بابك دونهم
                       أترى لعظم جرائمٍ سبقوني

أَوَجَدتهم لم يذنبوا فَرَحَمتهم
                        أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني؟
 
 
من آثاره:
1-    الأربعون حديثاً: طبع بتحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي(عج) في قم المقدسة سنة 1407هـ.
2-    الألفية في الصلاة اليومية: طبع بتحقيق الشيخ محمد عسيران في دار الأضواء في بيروت – لبنان سنة 1404هـ-1984م، ثم طبع مع النفلية بتحقيق الفاضل القائيمي النجفي في مكتب الإعلام الإسلامي سنة 1408هـ.
3-    البيان في الفقه: طبع طبعة حجرية في إيرن، ثم أعيد طبعه بتحقيق الشيخ محمد الحسون في مطبعة الصدر في قم سنة 1412هـ.
4-    جامع البين في فوائد الشرحين.
5-    الدروس الشرعية في فقه الإمامية: طبع طبعة حجرية خط محمد صادق بن أبي القاسم الحسيني سنة 1269هـ، ثم طبع بتقديم السيد مهدي اللاجوردي في انتشارات الصادقي في قم سنة 1398هـ، ثم طبع في ثلاثة أجزاء بتحقيق مؤسسة النشر الإسلامي في قم سنة 1412هـ.
6-    الدرة الباهرة: طبع بتحقيق الشيخ محمد هادي الأميني في المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف سنة 1388هـ.
7-    رسالة في التكليف وفروعه.
8-    رسالة تشتمل على مناسك الحج.
9-    رسالة الباقيات الصالحات.
10-    رسالة في قصر من سافر.
11-    شرح التهذيب في أصول الفقه.
12-    غاية المراد في شرح الإرشاد: والإرشاد للعلامة الحلي المتوفى سنة 726هـ شرحه الشهيد الأول، وطبع في ثلاثة أجزاء بتحقيق رضا المختاري في مؤسسة الأبحاث والدراسات الإسلامية في قم سنة 1414هـ.
13-    القواعد والفوائد في الفقه والأصول العربية: طبع طبعة حجرية سنة 1308هـ، ثم طبع مرة أخرى بتقديم السيد محمد رضا الطباطبائي في مكتبة الداوري في قم سنة 1396هـ، ثم طبع مرةً ثالثة بتحقيق الدكتور عبد الهادي الحكيم في النجف الأشرف سنة 1399هـ-1979م.
14-    اللمعة الدمشقية: مختصر لطيف في الفقه ألفها في سبعة أيام بطلب من سلطان خراسان سنة782هـ، طبعت مراراً في إيران والعراق ولبنان منها طبعة دار التراث والدار الإسلامية في بيروت بتحقيق محمد تقي وعلي أصغر مرواريد في سنة 1410هـ-1990م، كما طبعت مع شرحها الروضة البهية طبعات عديدة منها طبعة حجرية في مجلدين سنة 1309هـ، ثم طبعت مع تعليقات السيد محمد كلنتر المتوفى 1420هـ في عشرة أجزاء في النجف وقم ولبنان.
15-    كتاب المزار: طبع بتحقيق مؤسسة الإمام المهدي(عج) في قم سنة 1414هـ.
16-    كتاب الذكرى.
17-    كتاب الاستدراك ( أعيان الشيعة ج10/59-63.).
18-    النفلية: طبع مع الألفية بعنوان (الألفية والنفلية) بتحقيق علي الفاضل القائيني النجفي في مكتبة الإعلام الإسلامي في قم سنة 1408هـ.
وصية الشهيد الأول: طبعت بتحقيق الدكتور حسين علي محفوظ في الكاظمية (روضات الجنات ج7 ص3 - 4، الحقائق الراهنة ص205 - 207، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي حوادث سنة 786هـ، فهرس التراث ص412 - 414. ).