مقدمة:
"عاد": هم قوم نبي الله هود (ع)، ويذكر المؤرخون أن اسم "عاد" يطلق على قبيلتين... قبيلة كانت في الزمن الغابر البعيد، ويسميها القرآن بـ"عاد الأولى"(1)، (ويحتمل أنها كانت قبل التاريخ).
ويحددون تاريخ القبيلة الثانية بحدود (700) سنة قبل الميلاد، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.
وكان أهل عاد أقوياء البنية، طوال القامة، لذا كانوا يعتبرون من المقاتلين الأشداد، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من تقدم مدني، وكانت مدنهم عامرة وقصورهم عالية وأراضيهم يعمها الخضار.
وقيل: إن "عاد" هو اسم جد تلك القبيلة، وكانت تسمى القبيلة بـ "عادة".
إرم وجنّة شداد
وقد ذكر البعض قصة اكتشاف مدينة "إرم" العظيمة في صحاري شبه الجزيرة العربية وصحاري عدن، وتحدثوا بتفصيل عن رونقها وبنائها العجيب، ولكن القصة أقرب للخيال منها للواقع.
وعلى أية حال، فقوم "عاد" كانوا من أقوى القبائل في حينها، ومدنهم من أرقى المدن من الناحية المدنية، وكما أشار إليها القرآن الكريم: ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾(2).
وثمة قصص كثيرة عن جنة "شداد بن عاد" في كتب التاريخ، حتى إنها أصبحت مضربا للأمثال لما شاع عنها بين الناس وعلى مر العصور، إلا أن ما ورد بين متون الكتب لا يخرج عن إطار الأساطير التي لا واقع لها.
هود أخو عاد
يقول سبحانه في هذه القصة: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾(3) ونلاحظ في الآية أنها وصفت هودا بكونه "أخاهم". وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إلى أصل واحد .. فمثلا يقولون في الأسدي "أخو أسد" وفي الرجل من قبيلة مذحج "أخو مذحج".
أو أن هذا التعبير يشير إلى أن معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيا، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعا، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه، بل من منطلق أنهم خوة لهم.. معاملة خالية من أي شائبة وأي إمتياز أو استعلاء.
منطق هود القوي
كان أول دعوة هود -كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعا- توحيد الله ونفي الشرك عنه ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ﴾.
فهذه الأصنام ليست شركاءه، ولا منشأ الخير أو الشر، ولا يصدر منها أي عمل، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات "الأصنام" التي لا قيمة لها إطلاقا.
ثم يضيف هود قائلا لقومه: لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة، فأنا لا أريد منكم أي أجر ﴿يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء، فهو الخالق والرازق ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
ثم شرع هود بيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والاستفادة من جميع الوسائل الممكنة لإيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبين أن هذا الأجر المادي مشروط بالإيمان فيقول: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ﴾ فإذا فعلتم ذلك فإنه ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾ لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط، بل تظل خضراء مثمرة دائما، وزيادة على ذلك فإن الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إليه يرعاكم ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾(4).
فلا تتصوروا أن الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبدا، بل إن قواكم الجسمية ستزداد بالإستفادة من القوة المعنوية .. وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأمة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل.
اعتراض بعض آلهتنا بسوء
والآن لننظر ماذا كان رد فعل القوم المعاندين والمغرورين -قوم عاد- مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إليهم: ﴿قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ أي لم تأتنا بدليل مقنع لنا ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾ الذي تدعونا به إلى عبادة الله وترك الأوثان ﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
وأضافوا إلى هذه الجمل الثلاث غير المنطقية، إنك يا هود مجنون و ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾ ولا شك أن هودا -كأي نبي من الأنبياء- أدى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنهم لغرورهم -مثل سائر الأقوام- أنكروا معاجزه وعدوها سحرا وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الاتفاقية التي لا يمكن أن تكون دليلا على المطلوب.
هذه الجملة ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾(5) فإنهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإن هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم، وخرافة عبادة الأصنام.
فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إلى حماية من الإنسان نفسه، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإنسان العاقل؟!
أضف إلى ذلك، ما دليلهم على جنون هود إلا أنه كسر طوق "السنة المتبعة عندهم" وكان معارضا للسنن والآداب الخرافية في محيطه، فإذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعد جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.
لماذا لا تهلكني أصنامكم
على كل حال، فإن على هود أن يرد على هؤلاء الضالين اللجوجين ردا مقرونا بالمنطق، من منطلق القوة أيضا .. يقول القرآن في جواب هود لهم ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
يشير بذلك إلى أن الأصنام إذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علنا فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟
ثم يضيف أنه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء، فإذا كنتم قادرين ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾.
فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئا، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبدا، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلا إنني واثق بقدرة فوق كل القدرات، و﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم﴾(6).
وهذا دليل على أنني لا أقول إلا الحق والصدق، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر، فلو فكرتم جيدا لكان هذا وحده معجزا حيث ينهض إنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب، لكنه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه!
ثم إن هود قال لقومه في آخر كلامه معهم ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾.
إشارة إلى أن لا يتصوروا أن هودا سيتراجع إن لم يستجيبوا لدعوتهـ فإنه أدى واجبه ووظيفته، وأداء الواجب انتصار بحد ذاته حتى لو لم تقبل دعوته.
وكما هدد القوم هودا، فإنه هددهم بأشد من تهديدهم، وقال: إن لم تستجيبوا لدعوتي فإن الله سيبيدكم في القريب العاجل ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾(7).
فلا تفوته الفرصة، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.
اللعنة الأبدية على القوم الظالمين
القرآن الكريم يتحدث عن قصة قوم عاد ونبيهم هود إشارة إلى العقاب الأليم للمعاندين، فيقول: ﴿وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ﴾ ويؤكد أيضا نجاة المؤمنين ﴿وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾(8).
الطريف هنا أن الآيات قبل أن تذكر عقاب الظلمة والكافرين ومجازاتهم، بينت نجاة المؤمنين وخلاصهم، لئلا يتصور أن العذاب الإلهي إذا نزل يحرق الأخضر واليابس معا لأن الله عادل وحكيم وحاشاه أن يعذب ولو رجلا مؤمنا بين جماعة كفرة يستحقون العذاب والعقاب.
لكن رحمة الله تنقل هؤلاء الأشخاص قبل نزول العذاب إلى محل آمن كما رأينا من قبل في قصة نوح إنه قبل شروع الطوفان كانت سفينة النجاة قد أعدت للمؤمنين، وقبل أن ينزل العذاب على قوم لوط ويدمر مدنهم خرج لوط وعدد معدود من أصحابه من المدينة ليلا بأمر الله.
وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضا، وهو أن قوم عاد ورد ذكرهم في سورة القمر، والحاقة، وكانوا قوما ذي أبدان طوال خشنين، فشبهت أجسامهم بالنخل، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة، بحيث نقرأ في تاريخ ما قبل الإسلام أن العرب كانوا ينسبون البناءات الضخمة والعالية إلى عاد ويقولون مثلا: "هذا البناء عادي" لذلك كان عذابهم مناسبا لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشنا وعقابهم صارما.
العذاب الإلهي في يوم نحس
يقول القرآن الكريم في بيان كيفية نزل العذاب على هؤلاء القوم. ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾(9).
ثم يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله: ﴿تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾.
إن قوم عاد حاولوا التخلص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم، ولكن دون جدوى حيث أن الريح كانت من القوة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى أخرى، حتى قيل إنها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كل منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.
إن شدة الريح قطعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتجاهها، وبقيت أجسادهم المقطعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطعة الرؤوس، ثم قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.
ثم يتناول القرآن عاقبة هؤلاء القوم فيقول: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾(10).
وكون الريح عقيما هو عندما تأتي الريح غير حاملة معها السحب المطرة، ولا تلقح النباتات ولا تكون فيها أي فائدة ولا بركة وليس معها إلا الدمار والهلاك!.
ثم يذكر القرآن سرعة الريح المسلطة على عاد فيقول: ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾.
وهذا التعبير يدل على أن سرعة الريح المسلطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعية، بل إضافة إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل، فهي محرقة وذات سموم مما جعلت كل شيء رميما.
أجل، هذه قدرة الله التي تدمر القوم الجبارين بسرعة الريح المذهلة فلا تبقي منهم ومن ضجيجهم وصخبهم وغرورهم إلا أجسادا تحولت رميما.
هل ترى لهم من باقية
ثم تبين الآية التالية وصفا آخر لهذه الرياح المدمرة، حيث يقول الله تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾.
لقد حطمت وأفنت هذه الريح المدمرة في الليالي السبع والأيام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم، والتي كانت تتميز بالأبهة والجمال، واستأصلتهم من الجذور.
ويصور لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾(11).
إنه لتشبيه رائع يصور لنا ضخامة قامتهم التي اقتلعت من الجذور، بالإضافة إلى خواء نفوسهم، حيث أن العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسامهم من جهة إلى أخرى.
ويضيف في الآية التالية: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾(12).
نعم لم يبق أي أثر لقوم عاد، بل حتى مدنهم العامرة، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبدا.
1- كما في الآية (50) من سورة النجم.
2- سورة الفجر / 8.
3- سورة هود / 50.
4- سورة هود / 50-52.
5- سورة هود / 53-54.
6- سورة هود / 54-56.
7- سورة هود / 57.
8- سورة هود / 58.
9- سورة القمر / 19.
10- سورة الذاريات / 41.
11- سورة الحاقة / 7.
12- سورة الحاقة / 8.