۲٠۲۲/٠۷/٠٣ ۱٤:٤۵:٤۹
الحج ضيافة الله


وسيلة التعـارف

           


 

 


كثيراً ما نتساءل: ما هي الحكمة من اداء فريضة الحج ؟

للاجابة على هذا السؤال نقول: ان هناك حكماً عديدة تكمن وراء حج بيت الله الحرام ، وهذه الحكم يبينها الله جل وعلا في القرآن في أكثر من آية وسورة، كقوله عز من قائل في سورة الحج: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ .

فالحج هو معراج روحي للانسان، كما هو الحال بالنسبة الى الصلاة. فقد جاء في الحديث الشريف: " الطواف بالبيت صلاة ".

والحج هو تذويب للفوارق بحميع انواعها وإثارة ، وتأجيجاً لمشاعر الوحدة الاسلامية القائمة على اساس المبادئ السامية، وهو ايضاً حركة اقتصادية واسعة ، ومؤتمر حضاري اسلامي عظيم...كل ذلك وغيره يمثل حكما تدفع الانسان نحو الحج.

حكمة التعارف في الحج:

وهنا سوف اركز حديثي على حكمة اساسية من حكم الحج، قد تكون خافية على الكثير منا، الا وهي حكمة التعارف الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدفاً وغاية لخلق البشرية، وذلك في قوله سبحانه:
﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات/13).

والتعارف الذي يعني، تعرف الناس على بعضهم البعض، يمثل اساس حضارة الانسان فوق هذا الكوكب. ونحن نعلم ان كلمة ( الحضارة مشتقة من الحضور، والحضور على نوعين؛ حضور لجسد مع جسد آخر، وحضور الروح عند الروح، والارادة لدى الارادة الاخرى. وبتعبير آخر ؛ هو حضور معنوي يفرز الحضارة والتقدم والتطور لدى الانسان ، لان الانسان الذي يكون له حضور الى جنب أخيه الانسان روحياً ومعنوياً ، ويعترف منذ البدء بوجوده وحقوقه ، فان هذا الشعور هو الذي يجعل الفردين الحاضرين عند بعضهما يتعاونـان. من المعلوم ان التعاون سـوف ينتهـي بالتالـي الى التقـدم والتكامـل.

الحضور المعنوي هو الاساس:

ولذلك فان الحضارة المستنبطة من فكرة الحضور والشهود ، انمـا تنفع اذا كانت تعني الحضور المعنوي ولم تكتف بالحضور المادي. فكلما كان حضور الانسان عند الآخرين اكثر ، فان حضارتهم سوف تكون اسرع نمواً واكثر نضجاً، لان الانسان الذي يتعاون مع انسان آخر في جوانب معينة فان الحضارة عندهما ستكون محدودة بحدود تعاونهم مع بعض. ولذلك فاذا كان هناك انسانان مفترقان من الناحية المكانية، كأن يكون احدهما في الشرق والآخر في الغرب، وساد بينهما التعاون من جميع جوانبه، فانهما سوف يستطيعان افراز الحضارة رغـم انهما ليـسا حـاضرين عند بعضهما جسديـاً.

ولذلك فان القرآن الكريم يستعمل بدقة مصطلح ( التعارف ) بدلاً من الحضارة، ذلك لان معرفة البعض بالبعض الآخر ، والوعي الحضاري المتبادل ، وادراك الانسان ان عليه ان يتعاون مع الآخرين.. فان كــل ذلك هو بداية انطلاق الحضارة مـن كل موقــع.

ومما لاشك فيه ان هذا التعارف يتجسد كأحسن ما يكون التجسد في حج بيت الله الحرام، لان نخبة من ابناء الأمة الاسلامية من كافة الاقطار والطبقات سوف يتوافدون على منطقة واحدة ، ويجردون انفسهم عن الفوارق ؛ ومن ضمن مظاهر هذه الفوارق الثياب ، والجدل ، والتفاخر بالآباء ، والعمل ، واستخدام الوسائل الترفيهية.. ولكن هذه الفوارق تذوب جميعها اثنـاء موسم الحج، كما يقول تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَـجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ (البقرة/197).

فالجدال الذي يفرق بين الانسان واخيه الانسان محرم ، وكذلك الفسوق والرفث، وكل ما من شأنه ان يميز انسانا عن انسان آخر.

وهكذا فان الحج هو البوتقة الواحدة التي تذوب جميع الفروق والحدود والحواجز المصطنعة بين ابناء البشر. وقمة هذا الذوبان، هو التعارف. ونحن - المسلمين- بحاجة ماسة الى هذه الحكمة سواء عبر فريضة الحج، او الوسائل الاخرى.

اهمية التعارف في توثيق العلاقات:

ومن اجل ان نبين اهمية التعارف في توثيق العلاقات الاجتماعية والانسانية نقول: لنفرض انه قد قيل لك ان لك اخوانا مسلمين يعيشون في احدى الجزر النائية تعرضوا لزلزال عنيف وقتلوا نتيجة لهذا الزلزال، فان هذا الخبر من الممكن ان لا يهزك ، ولا يثير مشاعرك إلاّ لفترة موقتة. اما لو أخبرت ان زميلاً لك في الدراسة قد كسرت رجله، ورقد في المستشفى، فانك ربما تتأثر اكثر. والسبب في ذلك انك تعرف زميلك هذا ، وهو يعيش في وعيك ، لان معرفتك به ، وذكرياتك معه هي التي تدفعك الى التأثر والتألم.

واذا ما افترضنا انك قد ذهبت الى الحج ، وفي اثناء ادائك لمراسم هذه الفريضة تعرفت بشكل او بآخر على اهالي هذه الجزيرة ، وتحدثت معهـم، فحينئذ سيختلف وقـع الخبر السابــق بالنسبة اليك ، فتبـادر الـى
مشاركتهم الحزن والاسى.

هل نحن في مستوى التعارف:

وللاسف فان المسلمين يعيشون اليوم حالة انفصام عن بعضهم. فلا يعرف بعضهم البعض الآخر، إلاّ بقدر معرفتهم بالاخبار العامة.

واذا ما اردنا ان نطرح هذه المشكلة في افق اوسع، فلا بد ان نقول: ان مشكلة العالم الثالث الذي ننتمي اليه، هي مشكلة تخلفنا في مجال التطور العلمي. في حين ان الاسلام جعل طلب العلم فريضة على كل انسان مسلم، والنبي صلى الله عليه وآله يحثنا على طلب العلم قائلاً: "اطلبوا العلم من المهد الى اللحد" و"اطلبوا العلم ولو بالصين" ، والامام الصادق عليه السلام يشدد على اصحابه في طلب العلم قائـلاً: " ليت السياط على رؤوس اصحابـي حتى يتفقهوا في الحلال والحـرام ".

ان هذا العلم الذي جعله الله عز وجل فريضة ، وامرنا ان نبحث عنه، هو مشكلتنا اليوم. في حين ان الغربيين لا يعانون من اية مشكلة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، فان رئيس قسم الشرق الاوسط في مكتبة الكونغرس الاميريكية صرح ذات مرة ان هذه المكتبة مشتركة في (41) الف نشرة دورية تتحدث كلها عن الشرق الاوسط ، وفي الولايات المتحدة الاميريكية هناك المئات من بنوك المعلومات التي تزودنا بالمعلومات عن كل شئ ؛ عن حياتنا ، وعن طبيعة اقتصادنا ، ومسار سياستنا ، وتحركاتنا... وقد ربطوا الآن بنوك العالم في اوروبا بنظيراتها في اميركا ، وهذه المعلومات تخزن ، لتتم الاستفادة منها ، ولذلك فانهم استطاعوا ان يستعمرونا ، ويكيدوا لنا ، ويمكروا بنا.

ضرورة استقاء المعلومات:

ان من جملة واجبات الانسان المسلم اليوم، والعالم الاسلامي يتسع ومشاكله تزداد، معرفة اخوانه المسلمين. فالمعلومات يحب ان تنتشر الآن بين المسلمي، لان هذه المعلومات هي التي تمثل سلاح الانسان المستضعف ضد المستكبر. فينبغي - اذن - على كل مستضعف ان يمتلك المعلومات الكافية، ولذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وآله على ان طلب العلم، وقد جعله فريضة على كل انسان مسلم دون استثناء، ولم يقصدها على الفقهاء او على نخبة معينة اخرى من الامة.

ونحن - للاسف الشديد - لانعرف اين يعيش اخواننا المسلمون، وكيف يعيشون، وماذا يجري على شعوبنا، وماهي اساليب الاستكبار العالمي ازاءهم، وماهي المؤامرات والاساليب التي يستخدمونها في الخداع و التضليل، والدسائس التي يحوكونها ضدنا... كل ذلك نجهله، فكيف نتوقع ان نقاومهم، ونتحرك نحو الوحدة الاسلامية؟!

ولذلك فاني اوصي المسلمين جميعاً ان يخصصوا جزء هاماً من اوقاتهم، للتعـرف على اخوانهـم في العالم من خـلال الجرائد والمجلات، والاتصالات الشخصية عبر السياحة والسفر. وموسم الحج خير فرصة لذلك.

لذا يجدر بالمسلم عندما يذهب الى الحج، ان لا يكون همّه التفتيش عن الامتعة والبضائع الجديدة، بل يتعين عليه ان يحاول جاهدا اقامة جسور العلاقات مع اخوانه مهما كانت انتماءاتهم، وان يتعرف على احوالهم وافكارهم وتجاربهم في الحياة. فليس من الهين ان يجتمع مليون انسان في مكان واحد يمثلون مجموعة مختارة من صفوة المؤمنين في جميع ارجاء العالم الاسلامي.

﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج/27)

ففي الطريق الى الديار المقدسة يعاني هؤلاء الكثير من المشاكل والصعوبات، ومع ذلك فانهم يتوجهون لاداء فريضة الحج برحابة صدر ورضى، لان تلك الصعوبات والمشاكل تعمل على امتصاص سلبياتهم، وتزيل من التصاقهم بالمادة، وتبلور شخصياتهم، وتلغي الفوارق بينهم، وتزودهم بالنقاء الروحي، فيتجهون -بالتالي- الى الله جل وعلا وحده.

ولو ان هذا العدد الهائل من المسلمين اتصلوا ببعضهم ، واستقى بعضهم من البعض الآخر المعلومات والخبرات، ثم عادوا الى بلادهم محملين بهذه المعلومات القيمة، فكم ستكون هذه المعلومات ذات آثار ايجابية بناءة على مستقبل البلدان الاسلامية. لان هؤلاء الحجاج عندما يعودون الى بلدانهم سوف يشرحون لاخوانهم هناك المعلومات التي حصلوا عليها من اخوانهم المسلمين في مختلف انحاء العالم، الامر الذي سيؤدي الى ان يتعرف المسلمون على بعضهم البعض، وبالتالي فان الشعور بوحدة المصير والهدف سيسود بينهم.

الشعور السائد في الحج:

فانك عندما تلتقي بالحاج هناك، فانك سوف لاتشعر انك قادم من آسيا وهو من افريقيا مثلاً، وانك أبيص وهو أسود.. بل يسودك الاحساس بانكما حاجان تلتقيان بعيدا عن جيمع الفوارق والحواجز. وعلى الحجاج ان يستغلوا هذه الحالة المعنوية التي تسودهم في الحج، لكي يلتقوا بسائر اخوانهم المسلمين ، ويتعرفوا على ما يعانونه من مشاكل في بلدانهم ، وليشرحوا لهم - هم بدورهم - اوضاعهم ، ومشاكلهم.. فلابد من ان ينفتح الانسان المؤمن على أخيه المؤمن ليتعاونا معا، من اجل حل مشاكلهما.

ان الانسان المسلم الذي يأتي من اقصى الارض، وذلك الذي يعيش في مكّة، هما سـواء في هذا البيت الـذي جعله الله لجميع المسلمين دون فرق، كما يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (الحج/25).

من منافع الحج:

ثـم يقـول عـز وجـل: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (الحج/25-28).

وهذه المنافع التي يشير اليها الله تقدست اسماؤه، لا تقتصر بالتأكيد على الذبائح في منى ، بل تشمل ايضاً منافع المسلمين ومصالحهم، لانه تعالى يقول: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ .

ومن المعلوم انه كلمة (الشهادة) تختلف عن كلمة العلم والمعرفة ، لان الشهادة هي وعي عميق. فعندما تقول: اشهد ان لا اله الا الله. فان هذا يعني انك قد وصلت في علمك الى مرحلة الشهادة ، والعلم الحضوري - إن صح التعبير -.

ثم يضيف سبحانه، مشيراً الى منافع وفوائد اخرى ترتجى من وراء الحج: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج/28-29).

فالحج يعمل على تطهير نفوس المسلمين من الادران والنفايات والرواسب التي علقت بهم، لكي يصلوا الى مرحلة النقاء والصفاء والطهارة والتزكية، وشكر الله تعالى على رزقه اياهم وتوفيره النعم لهم، ولكي يدفعهم الحج الى الرفق بالانسان الفقير، وتقديم العون والمساعدة لـه.. لكي تسود الوحدة والانسجام بين الشعوب والمجتمعات الاسلاميـة ، ويحدث التعارف بينهم ويسهموا في بناء حضارتهم الاسلاميـة1.


1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.