تحمیل PDF هویة الکتاب الفهرست
«« الصفحة الأولی    « الصفحة السابقة    الجزء:    الصفحة التالیة »    الصفحة الأخیرة»»
اسم الکتاب: التقیة فی الاسلام    المؤلف: عبدالله نظام    الجزء: ۱    الصفحة: ۱۵٦   

إلى دلیل, وبما أنّ التقیّة إنما تعنی الحفظ وتهدف إلیه, وقد بیَّنا فیما سبق أنها سلوک طبعی للبشر, وسُنَّة کونیة؛ فإن الذی یلزمه إقامة الدلیل إنما هو المنکر لها, لمخالفته للسنة الکونیة وللسلوک الطبعی, الذی یؤسس للسیرة العقلائیة التی لا یزید إقرارها على مجرد عدم معارضتها والتزام الصمت حیالها, لذا فإن التقیّة لا تحتاج إلى دلیل خاص؛ لکفایة السیرة دلیلاً علیها, مع سکوت المعصوم بل تأییده ({علیه السلام}) .
ولبیان هذا المطلب نراجع بعض الأمثلة على عمل المشرّع الحکیم فی بعض أنماط السلوک الإنسانی والتکالیف الشرعیة العائدة إلیه:. أ. الجهاد: لمّا شرّع المولى جلّ شأنه الجهاد, بیَّن أنه سلوک على خلاف السجیّة الإنسانیة؛ لخروجه عن أصل الحفظ, فقال عزّ من قائل: ﴿ کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ کُرْهٌ لَکُمْ ... (216)﴾ [البقرة], فإن لفظة ﴿ کُرْهٌ ﴾ تبیّن أن القتال على خلاف الأصل فی الرغبة والسلوک الإنسانیین, ولکن هذا السلوک قد تمّ تعلیله وبیان أسبابه بقوله تعالى: ﴿ وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ لِلَّهِ ... (193)﴾ [البقرة], فأمرَ بالقتال وعلَّله برفع الفتنة من حیاة الناس، وقال فی آیة أخرى: ﴿ ... لَوْ لاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِیَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ یُذْکَرُ فِیهَا اسْمُ اللَّهِ کَثِیراً وَ لَیَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ (40) ﴾ [الحج], فإن الدفع خلاف الحفظ، ولکنه أمر لابدّ منه فی بعض الحالات حتى یحافظ على الدین وعلى النوامیس الأخلاقیة والقیم الإنسانیة السامیة.ب. تشریعات المأکل والمشرب: فإن النبی ({صلی الله علیه و آله}) قد استدل على حرمة بعض الأطعمة بنزول الوحی بتحریمها, مع کون الناس ما قبل التشریع یأکلونها، قال تعالى: ﴿ قُلْ لاَ أَجِدُ فِی مَا أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَیْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّکَ غَفُورٌ رَحِیمٌ‌ (145) ﴾ [الأنعام], وهذا یعنی أن بعض تلک المحرّمات کانت ستبقى على حلِّیتها لولا ما جاء فی التنزیل من تحریمها، وهذا یؤکِّد ما ذکرناه.ج. قضایا التجارة والمکسب: لقد تدخَّل الله عزَّ وجلّ فی تهذیب هذا القطاع، فحرَّم بعض الأنشطة ووضع الضوابط لبعضها الآخر, وبیَّن أن هنالک فروقاً کانت غیر منظورة من الناس, أو معتبرة بین أصنافها مِن قِبلهم فی المرحلة السابقة على التشریع، فکان لابدّ من بیان ذلک فی کتابه الکریم فقال: ﴿ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذٰلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عَادَ فَأُولٰئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ‌ (275) ﴾ [البقرة]. فقد میّز المشرّع بین مبادلة السلعة بالمال مع الزیادة فی القیمة أی الربح، وبین مبادلة النقد بالنقد مع الزیادة مقابل الفارق الزمنی بین الأدائین أی الربا، لِما لهذا النمط من الاستثمار من آثار مدمّرة للحیاة الإنتاجیة, فهو یزاحم الاستثمارات الزراعیة والصناعیة لقلّة عوائدها أمام هذا النمط من الاستثمار, مضافاً إلى سهولته وضآلة المخاطرة فیه, فإنّ المشرّع حرّمه ولم یعتبر للزمن مجرّداً عن الإنتاج أیّة قیمة، فلم یجوِّز الزیادة لأجله وحده، بینما جوّز الزیادة فی قیمة السلعة مقابل جلبها وعرضها، وهذا یوافق ما ذکرناه. وقال أیضاً: ﴿ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَکُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْکُمْ وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ إِنَّ اللَّهَ کَانَ بِکُمْ رَحِیماً (29) ﴾ [النساء], فحرّم أکل أموال الآخرین دون سببٍ مشروع, وهو ما کان یحکم به العقلاء على مر الزمان بنحو کلّی وإن اختلفوا فی تشخیص مصادیقه.د. تشریعات الزواج: فقد تدخَّل المشرِّع لبیان بعض أحکامه التی عدّلها, فحظر بعضها وقیَّد بعضاً، فقال فی کتابه الکریم: ﴿ وَ لاَ تَنْکِحُوا مَا نَکَحَ آبَاؤُکُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ کَانَ فَاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ سَاءَ سَبِیلاً (22) ﴾ [النساء], وقال أیضاً: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهَاتُکُمْ وَ بَنَاتُکُمْ ... وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَیْنَ الْأُخْتَیْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ کَانَ غَفُوراً رَحِیماً (23) ﴾ [النساء]. کما بیَّن بعض ما یترتّب على تلک الرابطة الإنسانیة, فقال عزّ من قائل: ﴿...وَ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَیْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ یَأْتِینَ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَ یَجْعَلَ اللَّهُ فِیهِ خَیْراً کَثِیراً (19) ﴾ [النساء]. فالمشرّع لم یتدخل فی أصل تشریع الزواج، وما تعارف علیه الناس من آدابه ورسومه، إنّما فی بعض جوانبه وجزئیاته, فبیّن حرمة الزواج من بعض النساء مما کان یعمله أهل الجاهلیة, وأشار إلى بعض حقوق الزوجة وطبیعة هذه الرابطة الإنسانیة, مما لم یکن یراعیه الناس فی الجاهلیة. ویتَّضح مما تقدّم أن کل التعدیلات فی الشروط والأجزاء التی یعتبرها المشرع فی مسألة من المسائل خلافاً لما تعارف علیه الناس، إنما یفرضها بتشریع خاص یدل على اعتباره لها, وما سوى ذلک یبقى على حاله کما جرى علیه الناس وبحسب نظرهم إلیه., سواء ما کان




«« الصفحة الأولی    « الصفحة السابقة    الجزء:    الصفحة التالیة »    الصفحة الأخیرة»»
 تحمیل PDF هویة الکتاب الفهرست