بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حميد الصفّار الهرندي (زيد عزه) ممثل الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) في سورية، بتاريخ 13 جمادى الأولى 1446 ه.
الخطبة الأولى:
تحدثنا عن البدعة والتحذير من البدعة. والتصدي لبدعة المبتدعين خصوصاً هذا التكليف موجه للعلماء أولا لأنهم هم يعرفون وأعرف الناس بالسنة والشريعة وبمواضع البدعة، فإذاً تكليفهم أكثر بالنسبة للآخرين.
نذكر بعض عواقب البدعة كما قال الله تعالى في كتابه الكريم وكذلك في أحاديث المعصومين عليهم الصلاة والسلام من عواقب البدعة: الخسران والضلال، أهل البدعة خاسرون ضالون، الله يقول قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (الأنعام: 140)
هؤلاء خاسرون يحرمون ما أحله الله هؤلاء أهل البدعة ويفترون على الله يعني يقولون هذا حكم الله مع أن الله لم يقل هكذا، هؤلاء أولا قد خسروا وثانيا يقول قد ضلّوا وما كانوا مهتدين، وفي آية أخرى في سورة آل عمران الآية الرابعة يقول الله تعالى فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (آل عمران: 94)
الذي يفتري على الله وينسب إلى الله حكماً شرعياً وهو ليس من الله تعالى. هذا هو الذي يفتري على الله، الذي يكون هكذا الذين سيرتهم هكذا عملهم هكذا، فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون، فإذا من عواقب البدعة هو الظلم. وثالثاً في آية أخرى الله تعالى يتوعدهم بالحرمان من الفلاح، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (النحل: 116) الله هو الذي يقول هذا حلال وهذا حرام، لا يجوز أن تأتي بشيء كحكم حلال وحرام من عند نفسك، هذه هي البدعة، لا يفلحون، فإذاً محرومون من الفلاح، أهل البدعة مبتدعون ومن عواقب البدعة الحرمان من محبة الله تعالى. وفي الآية السابعة والثمانين في سورة المائدة يقول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (المائدة: 87)
إذا وفقا لهذه الآية المبتدع هو المعتدي المتجاوز على حدود الله تعالى، ومن يتجاوز هو غير محبوب لله تعالى، الله تعالى لا يحبه. والخامس من عواقب البدعة الحرمان من الهداية: في سورة الأنعام الآية الرابعة والأربعون بعد المئة بعض الحيوانات التي تكون لحومها محللة على الناس، كانوا يحرمون بعضها مثل الإبل الفلاني لا يمكن أن يؤكل، هكذا كان يقولون أيضا مثلاً إذا حملت شاة كم مرة هذا لا يجوز أكل لحمها هذا من عند أنفسهم كانوا يشرعون الذي لم يكن في وكانوا ينسبونها الى ابراهيم الخليل سلام الله عليه كانوا يقولون نحن على الدين الحنيف دين ابراهيم عليه السلام ولكن كما تعرفون انهم كانوا يعلقون على جد جوف الكعبة الاصنام كانوا ينصبون الاصنام هناك ويطوفون حول الاصنام وكانوا يقولون هذا حج ابراهيم عليه الصلاة والسلام. هؤلاء مبتدعون في دين ابراهيم عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الأنعام: 144)
أنتم ظالمون ببدعتكم فغير مهديين، الله لايهديكم. المبتدع لا يجد طعم الهداية محروم من الهداية الإلهية هذه عقوبة إلهية على أهل البدعة.
يقول أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين في الخطبة الخامسة والأربعين بعد المئة في نهج البلاغة: وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ (الطريق الواضح) إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُور أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا. نهج البلاغة، الخطبة 145.
يعني هم يجعلون مكان سنةً بدعةً، يتركون السنة ويبتدعون بشيء باطل مكان تلك السنة، هذه البدعة تحتل تلك السنة، يعطلون سنّة ويبتدعون ويحيون بدعة، الإمام أبو عبد الله عليه الصلاة والسلام هكذا وصف المجتمع وحياتهم في عهد يزيد قال عليه السلام إن السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت يعني إذا تحيى البدعة ستموت السنة، الذي يأتي بالبدعة يريد أن يحذف السنة، لأنه لا يمكن أن تجتمع السنة والبدعة، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة قال وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ (الطريق الواضح) إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُور أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا. نماذج كثيرة في عصرنا الحالي من بدعة وإماتة السنة، أنا ذكرت وجئت بمثال في أمر الحج في العصر الحالي، هذه سنة بل فريضة من الله تعالى أن نرفع أصواتنا على أعداء الدين وعلى أعداء الإسلام وعلى المشركين، مشركي عصرنا، مشركي عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ماتوا ورفاتهم أيضا لا يمكن أن تحصلوا عليها، نعم نحن إذا نلعن أبا لهب لدوره المعادي على الإسلام، ولكن هناك نماذج مثل أبالهب في عصرنا الحالي، يجب أن نصرخ في وجه أبي لهب كأنه حي أمامنا، وكذلك بقية قادة المشركين وصناديد المشركين، عرباً كانوا أو غير عرب، فالإمام الخميني رضوان الله عليه أحيا في الحج هذه السنّة، وقال يجب عليكم أن تقوموا بالبراءة من المشركين في موسم الحج، لأن الله هو الذي قال في سورة التوبة (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج أن الله بريء من المشركين ورسوله) عندما يريدون أن يدفنوا ويقضوا على هذه السنّة وأن يميتوا هذه السنة يقولون يستشهدون بآيات قرآنية ويحرفون الكلمة عن مواضعه ويقولون لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، كم نسمع من هذا الكلام من وعاظ السلاطين في مكة؟ يعني يستشهد بأنه لا جدال في من يقول لماذا تجادل مع المشركين؟ لماذا تقول الموت لأمريكا؟ الموت لإسرائيل الموت للصهاينة الموت لهؤلاء الذين يقتلون الأبرياء والأطفال والنساء، عندما تقول هذا جدال في الحج، أي جدال؟ ما هو مفهوم الجدال في الكتب الفقهية؟ مفهوم الجدال واضح، عندما يريد أن يأتي ببدعة يميت تلك السنة، يريد أن يميت تلك السنة فيأتي ببدعة ويحرف الكلم عن مواضعه، بدلاً من أن نطالبهم بأنكم لماذا سكتم وصمتم كالأموات بقيتم صمٌ بكمٌ عميٌ على الجرائم التي يرتكبها النظام الصهيوني، هم يتهموننا بأننا أهل الباطل بأننا أهل الشغب بأننا أهل الفوضى، غريبون أهل البدع هكذا يتظاهرون بأن قولهم معتمد على الأدلة الشرعية هكذا يفترون على الله الكذب.
وأما عاقبة أخرى من عواقب البدعة هدم الإسلام: عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام «مَنْ مَشَى إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ فَوَقَّرَهُ فَقَدْ سَعَى فِي هَدْمِ الْإِسْلاَمِ». من لا يحضره الفقيه، ج3، ص572.
من مشى إلى صاحب بدعة لم يبتدع، ولكن مشى إلى صاحب البدعة ركع أمام صاحب البدعة، ساعد صاحب البدعة، قد خرجت بعض الفتاوى من مفتي الديار السعودية حول آداب التواجد في "الكازينو" يعني في مكان لعب القمار والملاهي، يعني الإنسان يحتار كيف هذا الخبيث يتجرأ بأن يقول توضئ وادخل في المرقص، يعني يوسّخ الآداب الدينية، يلوح هذه المفاهيم الطاهرة بهذه التصرفاـ، لماذا يريد أن يمشي إلى صاحب البدعة؟ ملكه هكذا قال فهو يجب أن يبرر ما يقوله ملكه الفاجر الذي هو يعمل ويريد أن يروج الفجور والفسق والزنا وما إلى ذلك من شرب الخمور بجوار الحرم الشريف المكي يعني في نفس تلك المدينة المطهرة العاصمة المقدسة يفتحون الملاهي، من يدعمهم بهذا الأمر؟ هؤلاء علماء السوء الذين يجب عليهم أن يتصدوا لمثل هذه البدع، بل يمشون إلى أصحاب البدع، الإمام عليه السلام يقول هو يسعى في هدم الإسلام.
والثامن من عواقب البدعة استحقاق اللعن الإلهي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اَلْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ الْعَمِّيِّ يَرْفَعُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. الكافي، ج1، ص54.
إذا لم يظهر ماذا يحدث؟ إذا يسكت حقناً لدمه أو لعرضه أو لماله وما إلى ذلك ماذا سيحدث؟ فمن لم يفعل فعليه لعنة الله، هذا العالم الذي يسكت أمام البدع هو ملعون، الله تعالى يجعله مستحقا للعن الإلهي، فإذاً من عواقب البدعة والصمت أمام البدعة ودعم البدعة هو اسحقاق اللعن الالهي.
والتاسع من عواقب البدعة الابتلاء بالضلال ونار جهنم: عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، الإمام الباقر والإمام الصادق، الراوي عن كليهما، أو إما عن الإمام الصادق وإما عن الإمام الباقر بل يبدو في الحديث أنه يروي عن كليهما، قال: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ رَفَعَهُ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، قَالَا: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ». الكافي، ج1، ص56.
فإذاً البدعة ضلالة، ومن يرتكب هذه البدعة هو لا محالة سيدخل النار.
والعاشر من عواقب البدعة العذاب الأليم: في سورة النحل قد قرأنا الآية السادسة عشر بعد المئة، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النحل: 117-116)
أولا أهل البدعة لا يفلحون وثانياً متاع قليل ولهم عذاب أليم، ممكن يتمتعون في الدنيا بتمتع قليل، ما تجده في الدنيا ولو كان كثيرا هو قليل بالنسبة للآخرة، لكن لا يتوقف في هذا المرحلة بل إن لهم عذاباً أليماً يوم القيامة، الله تعالى يتوعدهم بالعذاب الأليم. أعاذنا الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
الخطبة الثانية :
رَوَى وَرَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ قَالَ: خَرَجْتُ حَاجّاً إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ رَاجِياً لِثَوَابِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ وَ إِذَا أَنَا بِجَارِيَةٍ سَمْرَاءَ وَ مَلِيحَةِ الْوَجْهِ عَذَبَةِ الْكَلَامِ وَ هِيَ تُنَادِي بِفَصَاحَةِ مَنْطِقِهَا وَ هِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَ الْحَفَظَةِ الْكِرَامِ وَ زَمْزَمَ وَ الْمَقَامِ وَ الْمَشَاعِرِ الْعِظَامِ وَ رَبَّ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْأَنَامِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ أَسْأَلُكَ أَنْ تَحْشُرَنِي مَعَ سَادَاتِيَ الطَّاهِرِينَ وَ أَبْنَائِهِمُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ الْمَيَامِينِ. أَلَا فَاشْهَدُوا يَا جَمَاعَةَ الْحُجَّاجِ وَ الْمُعْتَمِرِينَ أَنَّ مَوَالِيَّ خِيَرَةُ الْأَخْيَارِ وَ صَفْوَةُ الْأَبْرَارِ وَ الَّذِينَ عَلَا قَدْرُهُمْ عَلَى الْأَقْدَارِ وَ ارْتَفَعَ ذِكْرُهُمْ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ الْمُرْتَدِينَ بِالْفَخَارِ. قَالَ وَرَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقُلْتُ: يَا جَارِيَةُ إِنِّي لَأَظُنُّكِ مِنْ مَوَالِي أَهْلِ الْبَيْتِ عليهم السلام فَقَالَتْ: أَجَلْ. قُلْتُ لَهَا وَ مَنْ أَنْتِ مِنْ مَوَالِيهِمْ؟ قَالَتْ: أَنَا فِضَّةُ أَمَةُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ ابْنَةِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهَا وَ عَلَى أَبِيهَا وَ بَعْلِهَا وَ بَنِيهَا. فَقُلْتُ لَهَا: مَرْحَباً بِكِ وَ أَهْلًا وَ سَهْلًا، فَلَقَدْ كُنْتُ مُشْتَاقاً إِلَى كَلَامِكِ وَ مَنْطِقِكِ فَأُرِيدُ مِنْكِ السَّاعَةَ أَنْ تُجِيبِينِي مِنْ مَسْأَلَةٍ أَسْأَلُكِ، فَإِذَا أَنْتِ فَرَغْتِ مِنَ الطَّوَافِ، قِفِي لِي عِنْدَ سُوقِ الطَّعَامِ حَتَّى آتِيَكِ وَ أَنْتِ مُثَابَةٌ مَأْجُورَةٌ. فَافْتَرَقْنَا فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ وَ أَرَدْتُ الرُّجُوعَ إِلَى مَنْزِلِي، جَعَلْتُ طَرِيقِي عَلَى سُوقِ الطَّعَامِ وَ إِذَا أَنَا بِهَا جَالِسَةً فِي مَعْزَلٍ عَنِ النَّاسِ، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا وَ اعْتَزَلْتُ بِهَا وَ أَهْدَيْتُ إِلَيْهَا هَدِيَّةً وَ لَمْ أَعْتَقِدْ أَنَّهَا صَدَقَةٌ ثُمَّ قُلْتُ لَهَا: يَا فِضَّةُ أَخْبِرِينِي عَنْ مَوْلَاتِكِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ عليها السلام وَ مَا الَّذِي رَأَيْتِ مِنْهَا عِنْدَ وَفَاتِهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا مُحَمَّدٍ صلی الله عليه وآله؟ قَالَ وَرَقَةُ: فَلَمَّا سَمِعَتْ كَلَامِي، تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهَا بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ انْتَحَبَتْ نَادِبَةً وَ قَالَتْ: يَا وَرَقَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ! هَيَّجْتَ عَلَيَّ حُزْناً سَاكِناً وَ أَشْجَاناً فِي فُؤَادِي كَانَتْ كَامِنَةً فَاسْمَعِ الْآنَ مَا شَاهَدْتُ مِنْهَا عليها السلام. ... فَأَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مُسْرِعاً حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا وَ إِذَا بِهَا مُلْقَاةٌ عَلَى فِرَاشِهَا وَ هُوَ مِنْ قَبَاطِيِّ مِصْرَ وَ هِيَ تَقْبِضُ يَمِيناً وَ تَمُدُّ شِمَالًا فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ عَاتِقِهِ وَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَ حَلَّ أَزْرَارَهُ وَ أَقْبَلَ حَتَّى أَخَذَ رَأْسَهَا وَ تَرَكَهُ فِي حَجْرِهِ وَ نَادَاهَا: يَا زَهْرَاءُ! فَلَمْ تُكَلِّمْهُ. فَنَادَاهَا: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى! فَلَمْ تُكَلِّمْهُ. فَنَادَاهَا: يَا بِنْتَ مَنْ حَمَلَ الزَّكَاةَ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَ بَذَلَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ! فَلَمْ تُكَلِّمْهُ. فَنَادَاهَا: يَا ابْنَةَ مَنْ صَلَّى بِالْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ مَثْنَى مَثْنَى! فَلَمْ تُكَلِّمْهُ. فَنَادَاهَا: يَا فَاطِمَةُ! كَلِّمِينِي، فَأَنَا ابْنُ عَمِّكِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا فِي وَجْهِهِ وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَ بَكَتْ وَ بَكَى، وَ قَالَ: مَا الَّذِي تَجِدِينَهُ؟ فَأَنَا ابْنُ عَمِّكِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْعَمِّ! إِنِّي أَجِدُ الْمَوْتَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَ لَا مَحِيصَ عَنْهُ ... ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: ابْكِنِي إِنْ بَكَيْتَ يَا خَيْرَ هَادٍ/ وَ اسْبِلِ الدَّمْعَ فَهُوَ يَوْمُ الْفِرَاقِ/ يَا قَرِينَ الْبَتُولِ أُوصِيكَ بِالنَّسْلِ/ فَقَدْ أَصْبَحَا حَلِيفَ اشْتِيَاقٍ/ ابْكِنِي وَ ابْكِ لِلْيَتَامَى وَ لَا/ تَنْسَ قَتِيلَ الْعِدَى بِطَفِّ الْعِرَاقِ/ فارَقوا فأصبَحوا يَتامى حيارى/ يحلِف اللهَ فهو يومُ الفراقِ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ عليه السلام: مِنْ أَيْنَ لَكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ هَذَا الْخَبَرُ وَ الْوَحْيُ قَدِ انْقَطَعَ عَنَّا؟ فَقَالَتْ: يَا أَبَاالْحَسَنِ رَقَدْتُ السَّاعَةَ فَرَأَيْتُ حَبِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صلی الله عليه وآله فِي قَصْرٍ مِنَ الدُّرِّ الْأَبْيَضِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: هَلُمِّي إِلَيَّ يَا بُنَيَّةِ فَإِنِّي إِلَيْكِ مُشْتَاقٌ. فَقُلْتُ: وَ اللَّهِ إِنِّي لَأَشَدُّ شَوْقاً مِنْكَ إِلَى لِقَائِكَ. فَقَالَ: أَنْتِ اللَّيْلَةَ عِنْدِي وَ هُوَ الصَّادِقُ لِمَا وَعَدَ وَ الْمُوفِي لِمَا عَاهَدَ، فَإِذَا أَنْتَ قَرَأْتَ يس فَاعْلَمْ أَنِّي قَدْ قَضَيْتُ نَحْبِي فَغَسِّلْنِي وَ لَا تَكْشِفْ عَنِّي فَإِنِّي طَاهِرَةٌ مُطَهَّرَةٌ وَ لْيُصَلِّ عَلَيَّ مَعَكَ مِنْ أَهْلِيَ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى وَ مَنْ رُزِقَ أَجْرِي. وَ ادْفِنِّي لَيْلًا فِي قَبْرِي. بِهَذَا أَخْبَرَنِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صلی الله عليه وآله. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَ اللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ فِي أَمْرِهَا وَ غَسَّلْتُهَا فِي قَمِيصِهَا وَ لَمْ أَكْشِفْهُ عَنْهَا فَوَ اللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ مَيْمُونَةً طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً ثُمَّ حَنَّطْتُهَا مِنْ فَضْلَةِ حَنُوطِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله عليه وآله وَ كَفَّنْتُهَا وَ أَدْرَجْتُهَا فِي أَكْفَانِهَا، فَلَمَّا هَمَمْتُ أَنْ أَعْقِدَ الرِّدَاءَ نَادَيْتُ يَا أُمَّ كُلْثُومٍ يَا زَيْنَبُ يَا سُكَينَةُ يَا فِضَّةُ يَا حَسَنُ يَا حُسَيْنُ هَلُمُّوا تَزَوَّدُوا مِنْ أُمِّكُمْ فَهَذَا الْفِرَاقُ، وَ اللِّقَاءُ فِي الْجَنَّةِ. فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ عليهما السلام وَ هُمَا يُنَادِيَانِ وَا حَسْرَتَا لَا تَنْطَفِئُ أَبَداً مِنْ فَقْدِ جَدِّنَا مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَ أُمِّنَا فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ يَا أُمَّ الْحَسَنِ يَا أُمَّ الْحُسَيْنِ، إِذَا لَقِيتِ جَدَّنَا مُحَمَّداً الْمُصْطَفَى فَأَقْرِئِيهِ مِنَّا السَّلَامَ وَ قُولِي لَهُ إِنَّا قَدْ بَقِينَا بَعْدَكَ يَتِيمَيْنِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ أَنَّهَا قَدْ حَنَّتْ وَ أَنَّتْ وَ مَدَّتْ يَدَيْهَا وَ ضَمَّتْهُمَا إِلَى صَدْرِهَا مَلِيّاً وَ إِذَا بِهَاتِفٍ مِنَ السَّمَاءِ يُنَادِي: يَا أَبَا الْحَسَنِ! ارْفَعْهُمَا عَنْهَا فَلَقَدْ أَبْكَيَا وَ اللَّهِ مَلَائِكَةَ السَّمَاوَاتِ فَقَدِ اشْتَاقَ الْحَبِيبُ إِلَى الْمَحْبُوبِ. قَالَ: فَرَفَعْتُهُمَا عَنْ صَدْرِهَا وَ جَعَلْتُ أَعْقِدُ الرِّدَاءَ وَ أَنَا أُنْشِدُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: فِرَاقُكِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي/ وَ فَقْدُكِ فَاطِمُ أَدْهَى الثُّكُولِ/ سَأَبْكِي حَسْرَةً وَ أَنُوحُ شَجْواً/ عَلَى خَلٍّ مَضَى أَسْنَى سَبِيلٍ/ أَلَا يَا عَيْنُ جُودِي وَ أَسْعِدِينِي/ فَحُزْنِي دَائِمٌ أَبْكِي خَلِيلِي
ثُمَّ حَمَلَهَا عَلَى يَدِهِ وَ أَقْبَلَ بِهَا إِلَى قَبْرِ أَبِيهَا وَ نَادَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نُورَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا صَفْوَةَ اللَّهِ مِنِّي، السَّلَامُ عَلَيْكَ وَ التَّحِيَّةُ وَاصِلَةٌ مِنِّي إِلَيْكَ وَ لَدَيْكَ وَ مِنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ عَلَيْكَ بِفِنَائِكَ وَ إِنَّ الْوَدِيعَةَ قَدِ اسْتُرِدَّتْ وَ الرَّهِينَةَ قَدْ أُخِذَتْ. فَوَا حُزْنَاهْ عَلَى الرَّسُولِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْبَتُولِ وَ لَقَدِ اسْوَدَّتْ عَلَيَّ الْغَبْرَاءُ وَ بَعُدَتْ عَنِّي الْخَضْرَاءُ. فَوَاحُزْنَاهُ ثُمَّ وَاأَسَفَاهْ! ثُمَّ عَدَلَ بِهَا عَلَى الرَّوْضَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ فِي أَهْلِهِ وَ أَصْحَابِهِ وَ مَوَالِيهِ وَ أَحِبَّائِهِ وَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ. ...
والحمدلله رب العالمين.